البنوك المركزية العالمية

تتزايد التساؤلات هذه الأيام بين الاقتصاديين والمحللين عن مدى قدرة البنوك المركزية العالمية على مواجهة المتغيرات والضغوط التي تواجهها في ظل آلياتها المعروفة والثابتة للتعامل مع الأزمات، إلى جانب ما يُطرح بشأن مدى ثقة الأوساط الاقتصادية في قدرة هذه البنوك على تغيير الواقع، ومدى نفوذها واستقلاليتها وسط حديث لا يهدأ عن ضغوط سياسية تواجهها.

ورغم أهمية ما يدلي به رؤساء البنوك المركزية حول العالم من تصريحات، وترقب الأوساط الاقتصادية كافة لهذه الكلمات؛ من أجل تحليل السياسات المالية، وبناء توقعات مستقبلية تتحرك على إثرها الأسواق والمضاربات، فإن ما يبدو من غموض وتأنٍ شديدين على لهجة صانعي السياسات المالية، وبخاصة في ظل عدم اليقين والتوترات الاقتصادية العنيفة، يدفع المستثمرين والأسواق نحو “التعامل على مسؤوليتهم” الخاصة، اقتناعًا بأن صانعي السياسات لن يفصحوا عن توجهات ربما لا تزال في غالبيتها مبهمة بالنسبة لهم شخصيًا.

تصريحات المسؤولين من كبار صناع السياسات المالية المجتمعين في جاكسون هول في نهاية الأسبوع صبت أغلبها في هذا الاتجاه: “نحن سنتعامل مع المتغيرات عندما تحدث”، “لا نعلم يقينًا إلى أين يذهب الاقتصاد”، و”نواجه ضغوطًا سياسية أكبر من قدرة آلياتنا المحدودة والتقليدية على التعامل”.

جانب آخر من القصة يكمن في فقدان الهيبة المعتادة والغموض الكبير الذي كان يغلف مجالس البنوك المركزية الكبرى؛ إذ أصبح من المعتاد أن يرى العالم بأكمله رئيس أكبر اقتصاد في العالم، دونالد ترمب، يوجه انتقادات حادة وعلنية إلى رئيس الفيدرالي جيروم باول، كاشفًا وسط ذلك عن مكامن قوة وضعف اقتصاد بلاده.

وتعد تحركات “الفيدرالي” بعد ذلك سلاحًا ذا حدين، فمن خلال ما يطالب به ترمب علنًا من دعوات خفض الفائدة أو إضعاف الدولار وما إلى ذلك، فإن سقف توقعات الأسواق يرتفع فوق إمكانات ورؤية مجلس “الفيدرالي”، وبالتالي تصاب الأسواق بخيبة أمل حين يتحرك “الفيدرالي” وفق مجال قدراته لاحقًا... ومن جهة أخرى، إذا حاول “الفيدرالي” تحقيق مجال أوسع في الحركة، فإنه ينظر إليه على أنه فقد استقلاليته، وبالتالي هيبته.

وبحسب تعليق أحد المراقبين، فإن “(الفيدرالي) أصبح يعمل في العراء، ودون الظهير السياسي القوي الذي كان يميز عمله طوال الأعوام السابقة”.

ومن بين مظاهر تراجع قوة البنوك المركزية، ما قالته شولي رين في مقال لها بـ”بلومبرغ” مطلع الأسبوع الحالي، إن مسؤولي البنوك المركزية بالأسواق الناشئة ربما بدأوا يستنبطون مفاتيح السياسة النقدية من أسواق المال؛ وليس من مجلس الاحتياطي الفيدرالي؛ نظرًا لأن الإشارات المتضاربة والتدخل السياسي أصبح يقلل من مصداقية المجلس الأميركي، بحسب الكاتبة، مستشهدة بقرار إندونيسيا بخفض أسعار الفائدة في مخالفة للتوقعات.

من جانبه، رأى رئيس هيئة الخدمات المالية السابق في بريطانيا، أدير تيرنر، أن البنوك المركزية على وجه العموم فقدت الكثير من نفوذها، وأن السياسة النقدية لم تعد تكفي للإبقاء على الاقتصاد في مساره.

وفي مقال له بصحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية، قال تيرنر، إنه وبينما يجتمع كبار مصرفيي البنوك المركزية حول العالم الأسبوع الحالي في ولاية وايومنغ الأميركية، فإن الأسواق المالية ووسائل الإعلام تترقب مؤشرات الاتجاهات السياسية المستقبلية.

ونبّه الكاتب إلى أن موضوع اجتماع هذا العام هو “تحديات السياسة النقدية”؛ وفي ظل تباطؤ النمو العالمي، سيركز النقاش على خفض معدلات الفائدة وإرشادات استشرافية أكثر وضوحًا.

ومن المتوقع في سبتمبر (أيلول) المقبل أن يعلن البنك المركزي الأوروبي عن التزامه بالإبقاء على معدلات الفائدة تحت الصفر إلى ما بعد 2020. ويعتقد بعض خبراء الاقتصاد أنه ينبغي على لجنة السياسة النقدية في بنك إنجلترا (المركزي البريطاني) أن تضع توقعات صريحة بشأن معدل الفائدة اقتداءً بـ”الفيدرالي”. ويأمل كثيرون أن يكون تخفيض “الفيدرالي” معدل الفائدة بنسبة 0.25 في المائة هو الأول قبل تخفيضات أخرى. ويرى صاحب المقال أنه وفي ظل أجواء من عدم اليقين، فإن التصريحات التي سيشهدها اجتماع مصرفيي البنوك في وايومنغ في الولايات المتحدة ستتسم بالتدقيق الشديد.

لكن في الواقع، ما يمكن أن تفعله البنوك المركزية وحدها لم يعد بالأهمية نفسها التي كان عليها في السابق. وقال الكاتب، إنه بات واضحًا منذ الأزمة المالية التي ضربت العالم عام 2008، أنه في ظل انخفاض معدلات الفائدة انخفاضًا شديدًا، تكون التخفيضات الإضافية قليلة أو عديمة الأثر على النشاط الاقتصادي الفعلي.

وعليه، فإذا ما أقدم بنك إنجلترا على خفض معدل فائدته من 0.75 في المائة إلى 0.5 في المائة، فإن أثر ذلك على الاستهلاك سيكون تافهًا؛ هذا فضلًا عن أن المزيد من خفض معدلات الفائدة كفيل بخفض معدلات النمو؛ إذ يحدّ من ربحية البنوك ومن قدرتها على الإقراض.

كما أن محاولات البنوك المركزية على صعيد إدارة التوقعات هي أيضًا بلا فاعلية؛ وعندما تُظهِر عائدات السندات الألمانية أن المستثمرين يتوقعون معدلات فائدة سلبية من البنك المركزي الأوروبي على مدى عشر سنوات، فإن الوعود بأن تلك المعدلات لن ترتفع حتى عام 2021 لا يمكن أن يتمخض إلا عن “أثر تافه”، بحسب تيرنر.

قد يهمك أيضًا:

منصور بطيش يشرح بشكل مفصل عناوين دراسة ماكينزي والقطاعات الانتاجية

التعطيل الحكومي بعد اندلاع إشكال "قبرشمون" يُقلِّص فرص إنقاذ الاقتصاد اللبناني