بيروت _ لبنان اليوم
شهدنا مؤخراً تدهوراً كارثياً وسريعاً لقيمة العملة الوطنية، بعدما تخطت السقف البسيكولوجي لـ 10 آلاف ليرة، والذي كان العتبة المخيفة للبنانيين. وهذا يعني لا سقف للتدهور، ولا سيما حين بلغ الدولار نحو 15 الف ليرة، بما يدلّ على خسارة مُدوية لقيمة الليرة اللبنانية التي قفزت من 1500 ليرة إلى 15 الفاً، أي ما نسبته 10 أضعاف، للوصول إلى الدولار الواحد.
هناك أسباب مباشرة معلنة ونقدية للتدهور المخيف في سعر العملة الوطنية، وهناك أسباب غير مباشرة وغير معلنة وغامضة لتقلبات سعر الصرف:
أولاً: ندرك تماماً أن المصرف المركزي يطبع الليرة اللبنانية، وليس الدولار الأميركي، أو اليورو الأوروبي، أو أي عملات أخرى. هذا يعني أن العملات الصعبة محكومة بأن تتبع سياسة العرض والطلب، ولا سقف لتراجع سعر الصرف، من دون ضخ سيولة من الإحتياطي أو استقطاب سيولة من الخارج.
من جهة العرض، نذكر أن الدولار الأميركي، كان يدخل الى لبنان من ثلاث جهات أساسية. المصدر الأول، تحويلات المغتربين المنتشرين في العالم، والتي كانت تُراوح ما بين 6 مليارات و8 مليارات سنوياً. إن هذه التحويلات تراجعت بشكل ملحوظ، وبعضها لا يزال قائماً بشكل خجول، لكنها لا تمرّ عبر القطاع المصرفي أو من الوسائل الرسمية.
من جهة أخرى، كان بعض العملات الصعبة يُضخ من خلال المساعدات الدولية، مثل مؤتمرات باريس (1)، و(2)، و(3)، إضافة إلى مؤتمرات روما، وبروكسل، ولندن، وأيضاً مبالغ قيّمة من قبل صناديق الدعم العربية وغيرها. لكن للأسف، بعدما خسرنا ثقة المجتمع الدولي، خسرنا أيضاً معها كل المساعدات النقدية وتحوّلت المؤتمرات الإقتصادية والإستثمارية من أجل لبنان إلى مؤتمرات إجتماعية وإنسانية، لتصدير سلع أساسية للحد من الفقر. وقد توقف ضخ أي سيولة تخوفاً من الفساد، وإتّقاء لتبخّرها.
من الجهة الثالثة للعرض، كان يدخل لبنان عملات أجنبية من خلال الصناعة والتصدير وأيضاً من السياحة ومن إيرادات السياح، لكن بعد الإقفال الجبري للقطاع الصناعي، وأيضاً تدهور ثقة الصناعيين، وحاجتهم للسيولة المستدامة، لشراء المواد الأولية، باتوا يطالبون بدفع مستحقاتهم وتحويلها خارج الأراضي اللبنانية، من أجل دفع واستيراد المواد الأولية التي يحتاجونها، فخسرنا هنا أيضاً تحويلات مهمة للناتج الوطني من العملات الصعبة.
أما بالنسبة إلى السياحة، فخسرنا آلاف السياح من الأخوة العرب الذين كانوا يُنعشون الإقتصاد اللبناني. أما السياح من بلاد الإغتراب، حتى إذا زاروا بلدهم الأم، فسينفقون من أموالهم المحجوزة في لبنان ولن يضخوا سيولة جديدة.
من جهة الطلب الداخلي، كان الطلب للعملات الصعبة مركّزا على التجار لاستيراد بعض السلع، وعلى الصناعيين لإستيراد المواد الأولية، وعلى الطلاب لدفع أقساطهم، وعلى بعض اللبنانيين الذين كانوا يسافرون دورياً إلى الخارج. فتحول هذا الطلب من نحو 300 ألف لبناني، إلى نحو 6 ملايين لبناني، إذ باتوا يبحثون عن العملات الأجنبية، للحفاظ على القيمة الشرائية وليحموا ما تبقى من مدخراتهم التي تذوب يوماً بعد يوم.
من جهة أخرى من الطلب، أُجبرت المصارف إلى التوجّه نحو السوق المحلية، لتأمين بعض السيولة التي كانت مطلوبة منها لزيادة رؤوس أموال مؤسساتها، وأيضاً لتأمين إحتياطي الـ 3 % من الودائع المطلوبة. فزيادة المبالغ المطلوبة من العملات الصعبة في السوق السوداء كان لها تأثير على سعر الصرف.
الجهة الأخيرة للطلب على الدولار، ترتبط بالطلب الداخلي على العملات الصعبة. نُدرك تماماً أنّ هناك حاجة يومية الى الدولار الأميركي لسوريا، التي تخضع لعقوبات، وحصار دولي، وتطبيق قانون قيصر، ولذلك تحتاج إلى استيراد العملات الصعبة من كل الجهات، بينها خصوصاً لبنان، ما يؤدي إلى سحب بعض السيولة من سوقنا المحلية، علماً أن السيولة المتوافرة حالياً لا تكفي لبلدين واقتصادين.
بناء على ما تقدم، يُبرهَن تقنياً وجود تجاذبات وضغوط حاصلة حيال موضوع العرض والطلب للعملات الأجنبية. وفي الوقت عينه، هناك أسباب غامضة، ونقاط استفهام كبيرة جداً وأياد سوداء تتدخل لزيادة الضغط على سعر الصرف. ليس سراً أن التدهور الأخير والأكبر حصل في نهاية الأسبوع (السبت والأحد)، بحيث في الأيام العادية، يكون العرض والطلب ضعيفاً، ما يعني أن هناك تدخلات، داخلياً وإقليمياً وخارجياً، خفية.
إن التشويش الداخلي، هو من أجل بعض الضغوط السياسية. أما التفاعل السلبي الخارجي، فيهدف إلى ضرب لبنان، وتركيعه إقتصادياً وإجتماعياً. لكن الضحية واحدة هو الشعب اللبناني الذي يدفع ثمن الصراعات الداخلية والإقليمية.بعدما تناولنا بالتفصيل الأسباب المعلنة وغير المعلنة لتدهور سعر الصرف، نستطيع القول: إن التحول إلى نظام بوليسي وتوقيف عدد من الصرافين عشوائياً لا يحل المشكلة الجوهرية. فمشكلتنا الأساسية تتعلق بالثقة واستقطاب الأموال الصعبة للإستثمارات، وندعو الجميع إلى التركيز على جذور الأزمة الحقيقية، وليس الأسباب السطحية.
قد يهمك أيضا