جائزة نوبل والدرس الكولومبي

جائزة نوبل والدرس الكولومبي

جائزة نوبل والدرس الكولومبي

 لبنان اليوم -

جائزة نوبل والدرس الكولومبي

بقلم : عبد الحسين شعبان

فاز الرئيس الكولومبي خوان مانويل سانتوس هذا العام "2016" بجائزة نوبل للسلام تقديرًا لجهوده من أجل تسوية النزاع المسلّح في بلاده، وهو ما أعلنته كارين كولمان فايف رئيسة لجنة نوبل للسلام في أوسلو "7 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري". وجائزة نوبل للسلام هي إحدى جوائز نوبل الخمسة التي أوصى بها ألفريد نوبل، وقد أراد بها التعويض عن تنامي القوة المدمّرة، حيث كان قد أدرك خطورتها على صعيد السلام العالمي، فهو مخترع الديناميت، لكنه لم يُستعمل إلاّ بعد وفاته. 
 
وتمنح جائزة نوبل سنويًا في العاصمة النرويجية "أوسلو"، وهو تقليد اعتمد منذ العام 1901، ومنذ سنوات اعتبر يوم 10 ديسمبر/ كانون الأول من عام، "وهو يوم صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عن الأمم المتحدة العام 1948"، يومًا للاحتفال بتسليم الجائزة من قبل معهد نوبل النرويجي، حيث يتم اختيار المرشحين للجائزة من قبل هيئة يعيّنها البرلمان النرويجي حسب وصية صاحبها. وقال سانتوس الذي تسلّم قيمة الجائزة "900 ألف دولار أميركي": إنه قبلها باسم ضحايا الحرب الأهلية، وخاطب الكولومبيين قائلًا: هذه الجائزة لكم، فقد أصبح السلام أقرب من أي وقت مضى، وتبرّع بثمنها إلى ضحايا النزاع المسلّح الذي عاشته البلاد منذ بدايات الحرب الباردة واستمر إلى الآن.
 
وجاء منح الجائزة لسانتوس بعد إعلان التوصل إلى اتفاق مع الحركة اليسارية الستالينية المتطرفة "فارك" والتي استمرت المفاوضات المضنية بشأنها نحو 4 سنوات، وكانت هذه الحركة تقود "كفاحًا مسلحًا" استمرّ 52 عامًا، وأودى بحياة ما يزيد عن 220 ألف مواطن وساهم في تعطيل التنمية وهدر طاقات البلاد وإمكاناته على الحرب الأهلية. وكان هدف الحركة، تغيير نظام الحكم بالقوّة المسلحة، ولجأت إلى جميع الوسائل لذلك، بما فيها غير المشروعة، مثل تجارة المخدرات للحصول على المال والسلاح، إضافة إلى التهريب وخطف السكّان المدنيين الأبرياء العزل، وطلب الفدية من ذويهم أو من الدولة، وتجنيد الأطفال واستخدام بعضهم قنابل بشرية موقوتة، لكنها في نهاية المطاف وصلت إلى طريق مسدود، ولم يعد بإمكانها الاستمرار، ولهذه الأسباب وافقت على الدخول في مفاوضات مع الحكومة إلى أن توصلت إلى الاتفاق المذكور.
 
وأدرك سانتوس هو الآخر أن الحكومة غير قادرة القضاء على الحركة المسلحة بالوسائل العنفية، التي استنزفت البلاد وعطّلت تقدمها وتنميتها، لذلك لجأ إلى فتح باب المفاوضات لإنهاء النزاع المسلح، ونجح في ذلك. كما أدركت الحركة المسلحة صعوبة، بل واستحالة إطاحة النظام، خصوصًا بعد المتغيّرات في الوضع الدولي وانهيار الكتلة الاشتراكية وتراجع اليسار بألوانه المختلفة.
 
لقد كان الاستمرار بالنسبة للطرفين يمثل نوعًا من المكابرة والعبث، فوافقت الحركة على إنهاء الكفاح المسلّح، وإلقاء السلاح وتسليمه إلى الحكومة والتوصل إلى مصالحة مع الدولة وبشروطها، ووافقت الحكومة على التوصل إلى حلول سلمية ومدنية، باستبعاد المساءلة الفورية أو المباشرة، ذلك أن اشتراط تحقيق العدالة كشرط للسلام قد يفضي إلى استمرار الحرب الأهلية، خصوصًا في ظل نفوذ لا يزال يملكه المتمردون، الذين يبلغ عددهم أكثر من 15 ألف مسلح، فكان لا بدّ من اللجوء إلى الوسائل السلمية واللاّعنفية باعتبارها سلاحًا ماضيًا للوصول إلى الأهداف المرجوة، حتى وإن ألحق بعض الخسائر بمسألة العدالة القانونية المنشودة.
 
حصل الاتفاق على التسوية في 26 أيلول/سبتمبر المنصرم 2016 في مدينة قرطاجة الكولومبية، بحضور رؤساء من دول أميركا اللاتينية، وحين عُرض على الاستفتاء الشعبي كانت النتيجة مفاجأة تمامًا، فقد رفضت الأغلبية الاتفاق مع الحركة المسلحة، وبلغت نسبة الرافضين 50.2%، أما نسبة الموافقين فهي 48.8%، وتلك إحدى مفارقات العدالة الانتقالية، وقد يحتاج الأمر إلى جهد أكبر للترويج لعملية السلام، خصوصًا إذا ما شعر الناس بجدواها. والاتفاق هو أقرب إلى صفقة سياسية حين وضع السلام مقابل العدالة، مقدّمًا الأول على الثانية، لأننا لو أخذنا بمعيار تطبيق مستلزمات العدالة القانونية والقضائية عند الاتفاق، فإن ذلك سيعني ملاحقة أعضاء حركة "فارك"، التي تصل جرائمها إلى جرائم حرب، وجرائم إبادة جماعية، وجرائم ضد الإنسانية، خصوصًا لجهة عدد الضحايا وتدمير المنشآت وإحراق المزارع وإتلاف البيئة وتهجير مئات الآلاف من السكان، وقد يكون بعضها من مسؤولية المحكمة الجنائية الدولية.
 
ولعلّ التجربة الكولومبية اليوم هي إحدى تجارب العدالة الانتقالية الجديدة، خصوصًا بتقديم السلام على المساءلة، ومن أبرز عناصرها هي: تعهّد قادة الحركة المسلّحة بتسليم أسلحتهم، والامتناع عن زراعة المخدرات وإتلاف ما يوجد لديهم، والتوقف عن الاتجار بها أو بعمليات تهريبها أو القيام بأي خرق لحقوق الإنسان، كما تعهّد بتقديم تعويضات "من المال السّحت الذي حصلوا عليه" إلى المزارعين، وأولًا وقبل كل شيء إعلاء حكم القانون ومرجعية الدولة والعودة إلى المجتمع كأفراد مدنيين. وأعتقد شخصيًا أن ذلك أمرًا في غاية الأهمية.
 
وأُطلقَ على الاتفاق بين الرئيس سانتوس وقادة الحركة المسلحة: العدالة التوافقية أو العدالة البنّاءة، وهذه تعني حسب حيثياتها: لا معاقبة الجاني وإعادة الحق لأصحابه، بل الاتفاق على تعهّد المرتكب بعدم تكرار ارتكاب جرائم جديدة وإعادة جزء من الحق لأهله، والاعتراف بحق الدولة في استعادة سلطتها، باعتبارها الجهة الوحيدة التي يحق لها احتكار السلاح واستخدامه.
 
وإذا كانت شروط العدالة الانتقالية تقوم على المساءلة وكشف الحقيقة وجبر الضرر وتعويض الضحايا وإصلاح الأنظمة القانونية والقضائية والأمنية، فإن التجربة الكولومبية، قفزت على النقطة الأولى، وتركت أمرها لتنفيذ الاتفاق، وإذا كان مثل هذا الإشكال يجنّب الشعب الكولومبي الويلات والمآسي التي عاشها لعقود من الزمان، فلا بدّ أن يكون مرحّبًا به لعلاقته بالمستقبل وليس بالماضي، فالانتقام والثأر قد يدفع إلى ردود فعل متقابلة، وهكذا.
 
وكانت التجربة الأرجنتينية في أواخر السبعينات وما بعدها قد سلكت طريق التوافق بإطفاء الحرائق ووقف التعقيبات القانونية بحق المرتكبين، كما سلكت التجربة التشيلية في أواخر التسعينات ذات الطريق، وهما شقّا تجربة جديدة في العدالة الانتقالية، قائمة على فقه التواصل وليس فقه القطيعة. وقد يصلح الدرس الكولومبي والأميركي اللاتيني لبلدان وشعوب أخرى، ويكون مفيدًا إذا أخذنا بنظر الاعتبار الظروف الخاصة بكل بلد، علمًا بأن مهمة تحقيق السلام، هي مهمة إنسانية مشتركة وعامة، ولكن كل بلد يحتاج إلى "سانتوسه" الخاص، ليحمل راية السلام، ويخمد النيران.

 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

جائزة نوبل والدرس الكولومبي جائزة نوبل والدرس الكولومبي



GMT 14:19 2016 الأحد ,30 تشرين الأول / أكتوبر

تركيا والموصل والخرائط!

GMT 19:29 2016 السبت ,16 تموز / يوليو

حقائق تقرير تشيلكوت ودلالاته..!!

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 15:24 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

أفكار لتوزيع قطع الأثاث حول المدفأة
 لبنان اليوم - أفكار لتوزيع قطع الأثاث حول المدفأة

GMT 09:51 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

فساتين الكاب تمنحك إطلالة ملكية فخمة

GMT 10:05 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

أفكار هدايا مبتكرة ومميزة في موسم الأعياد

GMT 08:48 2023 الأربعاء ,22 آذار/ مارس

أبرز العطور التي قدمتها دور الأزياء العالمية

GMT 15:27 2021 السبت ,10 إبريل / نيسان

علي ليو يتوج بلقب "عراق آيدول" الموسم الأول

GMT 11:57 2023 الأربعاء ,20 كانون الأول / ديسمبر

برومو ”الاسكندراني” يتخطى الـ 5 ملايين بعد ساعات من عرضه

GMT 16:26 2021 الإثنين ,20 أيلول / سبتمبر

بريشة : ناجي العلي

GMT 15:28 2024 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

أفكار لاستغلال زوايا المنزل وتحويلها لبقعة آسرة وأنيقة

GMT 09:37 2022 الخميس ,21 تموز / يوليو

طرق تنظيم وقت الأطفال بين الدراسة والمرح

GMT 14:26 2017 الجمعة ,15 كانون الأول / ديسمبر

متوسط أسعار الذهب في أسواق المال في اليمن الجمعة

GMT 19:03 2019 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

منى عبد الوهاب تعود بفيلم جديد مع محمد حفظي
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon