بقلم: ريموندا حوا طويل
يكتب وزير الحرب السابق موشيه آرنس في صحيفة هآرتس بتاريخ 17/8/2016 وتحت عنوان "بلفور وأبو مازن" ما نصه بالحرف "من المحتمل ان الفلسطينيين لم يكونوا كيانا قوميا معروفا من قبل الساحة الدولية ومن قبل أنفسهم، لولا وعد بلفور". ويضيف أيضا "هل سيأتي اليوم الذي سيعترف فيه الفلسطينيون، مواطنو اسرائيل والذين يعيشون في القدس ويهودا والسامرة، بحقيقة أن مصيرهم تحسن؟ وان إقامة دولة اسرائيل قد أنقذتهم كما يبدو من المعاناة التي يتعرض لها العرب في الدول المجاورة؟".
وهكذا، فإن موشيه آرنس يطلب منا أن نشكر الاستعمال البريطاني ودولة اسرائيل على ما أدوه الينا من إمكانية تعرفنا إلى أنفسنا وتعرف العالم الينا، وميلاد قوميتنا، وان نشكرهما أيضا على ما قدموه، الينا من نعمة الأمن والأمان وباقي الخدمات مثل الكهرباء والماء وفرص العمل، يعني، أن نشكر الاستعمار البريطاني ونشكر بلفور على تدميره وطننا وتشريده شعبنا واعطاء أرضنا لغيرنا، أي بكلمات أخرى، أن نشكر قاتلنا ومحتلنا وسارقنا والذي يحرمنا من اقامة كياننا القومي، وكل ذلك مقابل أن العالم قد صار يعرفنا، واننا نستطيع أن نعمل في مصانع ومزارع الاسرائيليين، الذين يتكرمون علينا بالماء والكهرباء، وان اسرائيل منعت عنا القتال الطائفي والحروب الجهوية، واننا لا نعيش كما يعيش السوريون أو الليبيون أو العراقيون.
والحقيقة، ان ليس هناك أكثر من هذا ديموغاغية وتضليلا وقلبا للحقائق، إذ يقوم آرنس – وهو وزير حرب ليكودي سابق تفنن في التضييق على الفلسطينيين في الثمانينيات – بعملية حرف للسرد التاريخي، أو إعادة انتاج الرواية التاريخية من خلال تقديم تفسير لهذه الرواية، بحيث تتحول السرقة الى هدية، وعملية التشريد الى استعراض وعملية التدمير الى فرص عمل وعملية التنكيل الدائمة الى حياة هادئة، وعملية الاحتلال برمتها الى تنوير وتقدم. وهذه عقلية المحتل الذي لا يستطيع أن يرى العالم منفصلا عنه، فالمحتل عادة ما يرى نفسه مركز العالم، والأحق بالعيش والأجدر بالحرية، أما من يحتلهم ويصادر حرياتهم فهم من جنس آخر يستحق ان يقع عليه كل ألوان الاستلاب والمصادرة.
ولا يقول آرنس شيئا جديدا في هذا الصدد، فقد سبق لكثير من المفكرين ان درسوا عقلية الاحتلال، مثل فرانز فانون وغيره، حيث شرحوا مثل هذه العقلية التي تحتاج الى تبريرات متعددة تسمح لهم بمصادرة الارض وقتل الناس وتعذيبهم.
فوعد بلفور في نهاية الأمر هو ذروة سياسية استعمارية خلال حرب عالمية طاحنة، رأت فيها بريطانيا ان استخدام الحركة الصهيونية سيفيدها جدا في صراعها ضد الامبراطورية العثمانية، وسيقربها من الولايات المتحدة الامريكية لتساعدها في الحرب، كما انها – أي الحركة الصهيونية – شكلت في حينه جماعة ضغط اقتصادية وأمنية جيدة أغرت بريطانيا لاستخدامها كما تشاء وكيف تشاء. هذا فضلا عن تعميق الاحلاف الجديدة التي كانت تتشكل في اوروبا خلال الحرب العالمية الاولى. بكلمات اخرى، كان وعد بلفور طعما آخر من آلاعيب بريطانيا لتوريط اليهود في مشاريعها الاستعمارية، وهي حقيقة اصبح كثيرون من عقلاء اليهود يعرفونها حق المعرفة، فبعد مئة عام من هذا الوعد، فإن اسرائيل لم تستطع ان تحصل على الهدوء أو السلام أو القبول، وتحولت الى مكان من أكثر الأماكن ضيقا وقلة أمن بالنسبة لليهود الذين يعيشون فيها، وبهذا المفهوم، فان وعد بلفور هو الذي "خلق" قومية لليهود لم تكن ابدا موجودة، وهو الذي "جمع" جماعات يهودية ذات أعراق وأثنيات مختلفة لينشىء كيانا يخدمه ويحميه.
وعد بلفور الذي لم يأتِ بضغط من الحركة الصهيونية وانما أتى على خلفية رؤية استعمارية عريقة رأت في ضرب الشعوب بعضها ببعض خير سياسة لابقاء وإطالة الاستعمار، والذي جاء نتيجة أوهام دينية معينة، والذي أتى نتيجة تغيرات سياسية وأمنية جديدة، رأت بريطانيا فيها أن من مصلحتها تفكيك الامبراطورية العثمانية ووراثتها والتحكم في ثرواتها وممراتها المائية، فكانت الحركة الصهيونية وما تدعيه من حقوق تاريخية ودينية خير من يقوم بهذا العمل. وبهذا المفهوم، يا سيد آرنس، فإن بريطانيا قذفت بكم – أو من صدق دعاوي الصهيونية في الماضي ومن يصدقها الآن – إلى آتون لا يهدأ من القلاقل، والمشكلة هنا، أن العالم العربي والاسلامي قبل اليهود وتعايش معهم وعاش معهم طيلة قرون دون تمييز أو إهانة أو إقصاء، ولم يشعر أبناء هذا العالم أن اليهود أناس غرباء، فهم جزء من ثقافة المكان وأبنائه، ولكن، وعندما جاءت الحركة الصهيونية بحماية الاستعمار وبحزمة من أفكار لا تشبه المكان ولا أهله، فإن الصراع مع الصهيونية لم يكن صراعا على معنى اليهودية أو محتواها أو اجتهاداتها، بل كان صراعا على ادعاء الملكية ونزعات الامتلاك واتجاهات التفرد والتميز والاستعلاء، بريطانيا قذفت بكم الى هنا، لانكم بشكل أو بآخر مثلها، ومن هنا كان الصراع، وبالقدر الذي تغيرتم فيه أنتم، تغيرنا نحن، ولو لم تأتي الحركة الصهيونية الينا، لتطور شعبنا تطورا طبيعيا مثل اي شعب عربي آخر، ولكانت لنا دولة مثل كل الدول التي حولنا، وقد نختلف، وقد نتصارع مثل غيرنا، ولكن هذا هو التاريخ، ولكن ليس بسببكم حافظنا على هدوئنا، بل على العكس، ان انقسامنا السياسي والاجتماعي هو بسببكم، ان الاتفاقات الرديئة او الناقصة او غير العادلة معكم هي التي دفعت شعبنا الى الجدل الداخلي، وان احتلالكم هو الذي دمر قرانا وجفف آبارنا وقتل ابناءنا، يعني، وبهذا المفهوم، فانك يا سيد آرنس تقلب حتى حقائق الواقع أو لا تراها أو لا تريد أن تراها.
أنتم تدفعون ثمن "قوميتكم" يوميا، ونحن ندفع ثمن "قوميتنا" كل ساعة، وهذا ليس بسبب وعد بلفور، بل بسبب تعنتكم ورفضكم الاعتراف بكياننا القومي، أنتم لا تريدون الاعتراف بهذا الكيان، أنتم تريدون منا أن نعترف بشرعية احتلالكم، أنتم تريدون منا وبعد مئة عام من وعد بلفور ان نشفيكم من أورامكم وأوجاعكم وأزماتكم، أنتم تريدون منا أن نشرعن وجودكم أمام أنفسكم أولا وأمام العالم، أنتم تريدون منا أن نكون جسركم الآمن الى العالم العربي والدولي، أنتم تريدون منا أن نعترف "بقوميتكم" و "دولتكم" حتى ولو لم يبق منا سوى صبي يافع. ولهذا، فان قولك يا سيد آرنس ان أبا مازن ما كان ليكون معروفا لولا وعد بلفور انما هو قول مريض وبعيد عن الواقع تماما، ابو مازن الذي تتحدث عنه بهذه الطريقة هو الذي يحاول فتح طريق ما ليعطيك شعورا بالأمن والأمان، وهو الذي يريد لكم ان تتخلوا عن أوهام الخوف والانعزال، ولهذا يتحدث معكم عن التسوية، ولهذا يحاول ان يقول للعالم كله ان بالامكان العيش المشترك، فهو رجل مثقف اكثر منك، ويعرف تاريخكم بطريقة تختلف عن طريقتك، فهو يحمل دكتوراة التاريخ الاسرائيلي، ويعرف عيوب وثقوب هذا التاريخ ويعرف الهواجس والمخاوف، كان الأجدر بك ان تقول وبعد مئة عام على وعد بلفور انه حان الوقت – وبعد امتلاككم للاسلحة غير التقليدية – ان الفلسطينيين يستحقون أملا ومستقبلا وأحلاما، وان تعذيبهم على الحواجز ومصادرة أراضيهم وقتل ابنائهم يجب ان تتوقف. وانه حان الوقت لاستئناف ما تدمر قبل مئة عام، فنحن يا سيد آرنس، مثلكم تماما، لنا نفس القلوب ونفس لون الدماء، لا نقل عنكم أبدا في شيء، لنا أبناءنا وحقولنا وحكايانا، وانت لا تستطيع احتجاز المستقبل ولا احتجاز الاعلام، واذا كانت الحرب العالمية الاولى قد أصدرت وعد بلفور، فان الحروب القادمة قد تلغي هذا الوعد، فالتاريخ، يا سيد آرنس، لا يستطيع أحد مهما بلغ من حكمة وذكاء أن يتوقع حكمته أو جنونه، أو كليهما.