بقلم سام منسي
عشية انطلاق الاستشارات النيابية الملزمة لتشكيل الحكومة اللبنانية، أطل علينا الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصرالله، مرة جديدة، ليرسم خريطة طريق عملية التأليف، محدداً «المقبول» و«غير المقبول»، ومؤكداً مقولة من قال إن «رجلاً واحداً يدير البلاد». سبق ذلك تصريح لوزير الخارجية اللبناني في حكومة تصريف الأعمال، جبران باسيل، بشأن عزمه وتياره عدم المشاركة في حكومة يكلف تشكيلها الرئيس المستقيل سعد الحريري، متبنياً من جهة المطلب الشعبي بحكومة اختصاصيين من «رأسها لساسها»، ومغرداً من جهة أخرى خارجه عبر إصراره بأن تعكس التشكيلة الحكومية توازن القوة الذي أفرزته الانتخابات النيابية الأخيرة، ومؤكداً مرة جديدة المعادلة الاستعلائية التي وضعها: إما هو والحريري في الحكومة معاً، وإما الاثنان خارجها. لم يأتِ تصريح باسيل المثقل بعبارات خشبية رنانة بجديد على صعيد مسار تشكيل الحكومات منذ اعتلاء الرئيس ميشال عون، سدة الرئاسة، أي اعتماد المحاصصة، وفقاً للأكثرية والأقلية النيابية، في حكومة صحيح أن أعضاءها اختصاصيون، لكنهم ليسوا سوى وكلاء عن الأصيلين.
لم يحد نصرالله عن ثوابته أيضاً لجهة استمراره في إدراج الانتفاضة اللبنانية في خانة المؤامرة، وفي سياق المواجهة المفتوحة بين إيران والولايات المتحدة، أو لجهة إصراره على إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل اندلاعها، وتشكيل حكومة تحاكي الحكومة المستقيلة في موازين القوى، ليواصل إحكام سيطرته عليها، كما على المجلس النيابي، حيث يتمتع بأغلبية.
إنما الجديد في الخطاب هو اللهجة الهادئة التي اعتمدها ونفحة «الديمقراطية» التي سادت شقه المتعلق بالحكومة اللبنانية. قال نصرالله إنه كما «رفضنا عندما كانت الأغلبية معهم تشكيل حكومة من لون واحد، نرفض اليوم ومعنا الأغلبية تشكيل حكومة من لون واحد، لأن هذا الأمر لا يصب في مصلحة لبنان»، وطالب بحكومة شراكة بـ«أوسع تمثيل ممكن»، لتتمكن من تجاوز الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها البلاد.
والجديد أيضاً هو نفيه تمسك الحزب بالرئيس الحريري رئيساً مقبلاً للحكومة العتيدة، مع تأكيده في الوقت عينه على احترام «ميثاقية» الآخرين لجهة اختيار «الأقوى في طائفته»، كما وفي الجملة نفسها، مرّ مرور الكرام على موقف باسيل دون تسميته، مشدداً على أن الحزب متمسك بمشاركة «التيار الوطني الحر» في الحكومة العتيدة.
مع وضع حرص «حزب الله» على المصلحة اللبنانية جانباً، ثمة أسئلة كثيرة تدور بشأن تمسكه بحكومة شراكة مع أطراف دأب على وصفهم تارة بالمتآمرين، وطوراً بالفاسدين. فالمنطق يقول إنه مع إعلان الرئيس الحريري، رفضه ترؤس الحكومة الجديدة، وإعلان كل من «الحزب التقدمي الاشتراكي» و«حزب الكتائب» و«القوات اللبنانية» عدم رغبتهم بالمشاركة فيها، عليه تحين الفرصة لتشكيل حكومة تساعده على تحقيق أهدافه. فلماذا لا يفعل؟
الأسئلة تدور أيضاً حول مصير الانتفاضة الشعبية، مع تخوينها من ناحية، وتجاهل مطالبها من ناحية أخرى؛ خصوصاً تلك المتعلقة بتشكيل حكومة اختصاصيين حيادية تكون خارج الطاقم السياسي المتحكم بالبلاد منذ ثلاثين عاماً. كيف سيتعامل «حزب الله» معها؟ هل سيتعاطى معها كما تعاطى «الحشد الشعبي» مع الثورة المندلعة في العراق، لتكون من ضمن الأضرار الجانبية في معركة إيران مع الولايات المتحدة؟
كما ماذا بشأن علاقة الحزب مع حليفه المسيحي، والتهميش الذي تعاطى به الأمين العام لحزب الله مع موقف باسيل الأخير. فهل تصدعت العلاقة بين الطرفين، أم أن الموقفين مجرد مناورة وراءها طبخة من الفريقين لا ندري حتى الآن مكوناتها؟
في الواقع، وبخلاف ما يحاولان الإيحاء به، فإن إيران و«حزب الله» في موقف لا يحسدان عليه، إقليمياً ودولياً، خصوصاً لجهة ما أثبتته الانتفاضات الشعبية في لبنان والعراق من فشل الجمهورية الإسلامية في استقطاب البيئات المحلية الشيعية استقطاباً كاملاً. فلبنان يشهد انتفاضة شعبية غير مسبوقة وتوترات متنقلة ومتدرجة في بطشها بين المنتفضين ومؤيدين لـ«حزب الله» و«حركة أمل»، كما يشهد العراق انتفاضة شعبية شيعية عنوانها الرئيس رفض التدخل الإيراني في شؤون البلاد الداخلية، ويخيم عليها قمع دموي وعمليات خطف واغتيالات للناشطين الوطنيين، اتُهمت الميليشيات الموالية لإيران بالوقوف وراءها.
دولياً، اشترط البيان الختامي للمؤتمر الدولي الذي عقد بمبادرة أوروبية لمساعدة لبنان، ضرورة أن ينأى لبنان بنفسه عن الصراعات الإقليمية، لوصول المساعدات إليه، كما دعا وزير الخارجية الأميركي، مارك بومبيو، الشعب اللبناني، بصريح العبارة إلى إنهاء خطر «حزب الله» كمدخل للخروج من المحنة التي تعصف بكيانه، معلناً في الوقت عينه فرض عقوبات جديدة على طهران. وتكر سبحة المخاطر التي تهدد النفوذ الإيراني في المنطقة، لتحطَّ في اليمن، وفي سوريا، حيث باتت إيران تتقاسم النفوذ فيها مع روسيا وتركيا، بعدما كانت الآمرة والناهية. وعليهم نفهم تمسك الحزب بمشاركة الحريري والتيار بالحكومة، لأنه بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى غطائيه المسيحي والسني.
أما الانتفاضة الشعبية، فمن المرجح أن تتواصل التوترات بين المنتفضين ومؤيدي الثنائي الشيعي، دون أن يتدخل الحزب ميدانياً على غرار ما فعل في 7 مايو (أيار) 2008، مع الإيعاز للقوات المسلحة باعتماد نهج أكثر صرامة مع المحتجين، وهذا ما ظهر مؤخراً.
بالنسبة إلى العلاقة بين الحزب والتيار، الثابت أن الحزب لن يغامر اليوم بخسارة غطائه المسيحي، الذي سقط عليه هدية من السماء مع «التيار الوطني الحر». السيناريو الأكثر رجحاناً أن تكون مواقفهما الأخيرة مجرد مناورة غرضها المضي في عملية تكليف الرئيس الحريري، مع تحجيمه عبر تكليفه بأغلبية أصوات ضئيلة جداً، وبعدها عرقلة التأليف بما يؤمن استمرارية وتفعيل حكومة تصريف الأعمال، وفي هذا خدمة لجميع الأطراف الممثلة فيها. إضافة إلى كل ذلك، ستكون الدولة مضطرة لاتخاذ تدابير غير شعبية قد يكون بعضها مؤلماً للتصدي للأزمة الاقتصادية والنقدية، فلا ضير من أن تقوم بها الحكومة المستقيلة بجميع أطرافها.
وعن احتمال تأليف حكومة اختصاصيين حيادية، فهو غير موجود في قاموس «حزب الله»، لأنه لن يتنازل عن نفوذه في لبنان، هو وراعيته إيران اليوم في أمس الحاجة إلى التشبث بهذا النفوذ، كما لن يغامر بخسارة كل البدع الذي جهد لإدخالها على الحياة السياسية من التوافقية إلى الميثاقية والمحاصصة، التي أعطته اليد الطولى في رسم سياسة البلاد.
ثمة سيناريو آخر، وهو أن يعيد الرئيس الحريري الكرة إلى «العهد»، وحليفه «حزب الله»، ويرفض التكليف، وإما أن يقبله ويقرر قلب الطاولة على الجميع، والإفادة من الإصرار على تكليفه من داخل طائفته، كما من مناهضيه، ويعلن أمام الناس، لا سيما الجمهور المنتفض، عن تشكيلة حكومية حيادية يكون أعضاؤها خبراء واختصاصيين، وتلبي مطالب الشعب والمجتمع الدولي والمرحلة الاقتصادية الصعبة التي تنذر بانفجار بركان اجتماعي سيكون من الصعب احتواؤه، وعندها يظهر الخيط الأبيض من الخيط الأسود. سيناريو متخيل وغير واقعي في بلد ممعن في التوهم أنه وطن، ويبدو أن المقبل على البلاد حالك في سواده.