بكر عويضة
كنت بصدد العودة إلى مناقشة تزكية النفس على الغير، خصوصا في نظر من يعطون أنفسهم حق «محاكمة» كل «مختلف معهم في الرأي، سواء تعلق الأمر بقضية فلسطين، أو غيرها»، وفق ما ختمت به مقالة الخميس الماضي. لكن يومنا هذا هو يوم ذكرى النكبة، نعم، نكبة 1948 ما غيرها، فكيف يمكن لموضوع المقالة الخروج عنها؟ خبريا، لن يضيف الكاتب أي جديد حين يعالج ذكرى مناسبة ما، إلا إذا كشف الغطاء عن معلومة جديدة، حتى لو لم تكن خطيرة، أو بالغة الأهمية، لكن المهم أنها لم تكُ معروفة من قبل. حسنا، ذلك أمر غير متاح لي، إذ ليست لديّ مفاتح خزائن تُخفي خطير المعلومات وأسرارها. إنما ذلك لا يمنع عودتي إلى أرشيف ما جرى، لتجديد اكتشاف ما صار بحكم المعروف، لعلني أقع على ما يجدد ذاكرتي، ويؤكد ما ليس بحاجة للتأكيد، وخلاصته في هذه الحالة، أن نكبة فلسطين هي نتاج واقع عربي في الأساس، استفاد منه تطلع غربي لوجود حليف موثوق يمكن الاعتماد عليه في منطقة استراتيجية، ووظفه بمزيج جمع التخطيط مع الدهاء والإرهاب ساسة وعسكريون ملتزمون بالمشروع الصهيوني، ليس فقط لكي يتجسد «حلم وطن قومي لليهود»، وإنما لتمهيد الطريق أمام تحقيق أطماع الإسرائيليين فيما وراء أرض فلسطين، التي صارت تُعرف منذ مساء 14 مايو (أيار) 1948 بدولة إسرائيل.
بيد أن نبش الملفات القديمة ليس فقط ينعش الذاكرة، بل يمكن أيضا أن يفتح نافذة مثيرة لاهتمام الباحثين، حتى وإن أثارت الدهشة، وربما شيئا من السخرية. من ذلك، على سبيل المثال، ما تردد من كلام في شأن محاولات قيل إنها سبقت إصدار آرثر بلفور وعده الشهير (2-11-1917) لإنشاء إسرائيل على أجزاء من أراضي أوغندا، أو الأرجنتين. أحدث ما قيل في ذلك السياق حديث عن اقتراح ليهودي روسي بإقامة الدولة اليهودية في منطقة الأحساء السعودية (يمكن مراجعة مقال عبد الرحمن الراشد، «الشرق الأوسط»، عدد السبت 12 أبريل/ نيسان الماضي). تثير تلك المحاولات الدهشة لأنها، على الأرجح، كانت مجرد شطحات. وهي تثير سخرية أي باحث جاد لأنها تُخرج فكرة إسرائيل الدولة من حاضنها الأساسي، وهو فكر الحركة الصهيونية، الذي وضع هدفا واضحا جرى توثيقه في مؤتمر بال بسويسرا (29 أغسطس/ آب 1897) قبل عشرين سنة من وعد بلفور، ونص صراحة على أن الهدف هو إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وأن الوسيلة هي تنشيط الهجرة اليهودية، وثمة قول يلخص أعمال المؤتمر يُنسب لمؤسسه، تيودور هيرتزل، خلاصته أن الدولة اليهودية تأسست في ذلك المؤتمر. معنى هذا أن أي تفتيش يهودي عن نقطة خارج فلسطين لتأسيس المشروع الصهيوني وانطلاقه، هو خروج عن النص، وإن كان حصل فهو نوع من الدخول في باب التحايل واكتساب بعض وقت، وإلا فما الذي يجمع بين بيونس آيرس و«أورشليم» القدس، أو أين يكون موضع أسطورة شعر شمشون الجبار، الذي قيل إنه مقبور في غزة، مع دليلة المحتالة، وهي وفق الأسطورة غزاوية، في تاريخ كمبالا أو أي قرية أوغندية، أما فلسطين فقد عاش على سواحلها الفلسطينيون القدماء (PHILISTINES) وبرعوا في نحت أوان من الفخار، كما أثبتت الحفريات، مثلما قامت فيها ممالك يهودية تحالفت أحيانا، وحارب بعضها بعضا أحيانا أخرى. باختصار، فلسطين ليست فقط مجرد قطعة أرض كغيرها في مشارق الأرض ومغاربها، بل هي جزء أساس من تاريخ علاقة البشر بالديانات، وإن كان لا مفر من مبرر ديني لقيام دولة لليهود، وفق الفكر الصهيوني العلماني، فليس في غير فلسطين يتوفر مثل ذلك التبرير.
مع ذلك، حتى بعد ست وستين سنة على قيام إسرائيل، يجري الكشف عن وجود احتمال بإنشائها في مكان غير فلسطين. هل ثمة جدوى من هكذا اكتشاف؟ لست أعتقد ذلك. الأجدى للعرب، وفي مقدمهم الفلسطينيون، هو محاولة فهم لماذا ولدت نكبة فلسطين نكبات عربية، ولماذا استمر تناسل النكبات طوال أمس العرب والمسلمين القريب، وما يزال، ولا ندري ما الأفظع الذي سيأتي به المستقبل.
تقرأ مقتطفات عن سير حرب 1948 فتَعجب كيف انهارت القوات العربية أمام مقاتلي منظمات كانت تعتمد أساليب حرب العصابات، مثل «الهاغاناه»، و«إرغون»، و«شتيرن، و«بلماح»، لكنك تُعجب إذ تلحظ كيف نجح الجيش الأردني في الاحتفاظ بالضفة الغربية والقدس، وكيف فرض الجيش المصري حضوره في قطاع غزة فثبّت حدود فلسطين التاريخية مع مصر، ثم سرعان ما تقفز عشرين سنة إلى الأمام لتمر أمامك نكبات حرب الستة أيام من يونيو (حزيران) 1967، فيصير العجب عجابا، أترجع الأمم إلى الوراء فإذا حالها أسوأ مما كانت عليه قبل عقدين من الزمان؟ أليس هذا ما كان؟ بلى. ألم يكن بالوسع إعلان دولة فلسطينية عاصمتها القدس على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، عندما كانت تحت سيادة دولتين عربيتين؟ بلى، الإمكانية كانت موجودة، أما الإرادة فغائبة، ولعل ثمة قائلا إن الإرادة الدولية أيضا لم تكن لتسمح آنذاك، كما الآن، بقيام دولة فلسطينية مستقلة. لكن ذلك كله، في تقديري، يندرج في خانة البحث عن مبررات تقصير ليس ثمة ما يبرره.
وفي السياق ذاته، يثير السخرية ما يجادل به إسرائيليون في هذا الزمن، سواء نتيجة تعصب أعمى، أو جهل مُتعمد، وخلاصته أن الأردن هو الدولة الفلسطينية. لكن ما يثير السخرية ليس بحاجة للرد، يكفي أن من حاولوا، بجد، تسويق حكاية «الوطن البديل»، بين ساسة إسرائيل المحنكين اكتشفوا منذ السنوات الأولى لانتصارهم في حرب 1967 عقم محاولتهم، فكفوا عن المتاجرة بها في سوق تصفية القضية الفلسطينية.
توالت نكبات العرب بعد نكبة فلسطين لأن فساد واقع 1948 السياسي والعسكري والاقتصادي لم توضع حلول علمية - عملية لمواجهته. بسبب ذلك الفشل ترعرع فكر التطرف الإسلامي، وبدأ ينادي بمشروعه كبديل، ثم انتقل إلى العمل الميداني، بدءا باغتيالات جماعات التكفير والهجرة، مرورا بمذابح الجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر، وصولا إلى مسلسل إرهاب «القاعدة» وفروعها المتواصل منذ بدأ في لاغوس وكمبالا (1998) مرورا بواشنطن ونيويورك (2001) ثم إندونيسيا (2002) فمدريد (2004) ولندن (2007) وصولا إلى ما يجري الآن في سوريا والعراق وليبيا، وأخيرا جرائم بوكو حرام نيجيريا. إلى أين من هنا؟ أترك الجواب لكم.