مهمة سودانية مستحيلة

مهمة سودانية مستحيلة

مهمة سودانية مستحيلة

 لبنان اليوم -

مهمة سودانية مستحيلة

بقلم: بكر عويضة

الذين شاهدوا آخر أفلام المسلسل الأميركي المعروف باسم «مهمة مستحيلة»، يتذكرون على الأرجح أن سيناريو «Mission: Impossible - Fallout»، الذي عرض عام 2018، شرح كيف انتهى الحال بفريق يعمل ضد عدو واحد مشترك إلى صراع داخل الفريق ذاته، نتيجة تناقض الرؤى، وتضارب المخططات، الأمر الذي أدى، بالتالي، إلى تعارض الوسائل، وتصادم الغايات. الواقع أن سيناريوهات الأفلام الأميركية الستة - حتى الآن - التي بدأ عرضها منذ العام 1996، تدور حول استحالة التوفيق، أحياناً، بين أناس تجمعهم أهداف موضع اتفاق بينهم، ويعتقد أعضاء كل جمع منهم أنها تشكل الطموحات ذاتها لدى غيره من الفرقاء، ما يعني أن الجميع ينبغي أن يجتهد لأجل تحقيقها، لأن فيها صمام أمان للمجتمع ككل، وللناس أجمعين. طبعاً، في كل فيلم أميركي، سوف ينتصر، دائماً، الطرف القوي، ويتحقق الهدف المأمول. كذلك أيضاً على أرض الواقع السياسي، يتكرر السيناريو ذاته، تقريباً، إنما الاختلاف هو حول من يقرر أنه صاحب القرار النهائي.
محاولات السودانيين التوفيق بين الساسة المدنيين والعسكريين تشبه، في جوانب منها، تلك المهمات المستحيلة. والحق أن الأمر ليس حكراً على السودان وحده. بيد أن للمجتمع السوداني خصوصيات تعدديته، التي تكاد تجعل منه مجتمعات لكل منها تمايزات تكويناتها الطبقية، وأدبياتها الثقافية، وتجلياتها الروحانية. ما سبق يعطي واقع السودان السياسي خصوصية تميزه عن أي مجتمع عربي آخر. يدرك هذا الأمر كل متابع للشأن السوداني، منذ كان يتبع دولة مصر، ثم بعدما أعلن إسماعيل الأزهري الاستقلال (1955)، وصولاً إلى انقلاب الفريق إبراهيم عبود (1958)، فثورة أكتوبر (تشرين الأول) 1964، ثم انقلاب العقيد جعفر نميري (1969)، فانقلاب الفريق عمر البشير (1989) المعزول عام 2019، وها هم السودانيون، بعد عامين وبضعة أشهر على إطاحة حكم البشير، يواجهون واقعهم الحالي. لم أشر إلى الفترات التي تولت فيها شخصيات مدنية الحكم، سواء إلى جانب رئيس عسكري، أو خلال سنوات انتقالية ما بين انقلاب وآخر. لماذا؟ لأن محصلة تلك الشراكات غالباً ما انتهت إلى ما هو جارٍ الآن. إنها المهمة المستحيلة، حقاً. مرة ثانية، ليس في السودان وحده، وإنما في كل التجارب المماثلة. أليس ثمة استثناءات؟ بلى. يمكن القول إن تعايش المدنيين مع العسكريين في الحكم كان ممكناً في مجتمعات عربية اتسمت بأمرين؛ أولهما وجود مؤسسات للدولة العميقة قائمة منذ مئات السنين، بعضها يعود إلى زمن الإمبراطورية العثمانية، قبل تفشي الفساد في كل مفاصلها، ثم مرضها، وصولاً إلى انهيارها. مصر وسوريا والعراق ثلاث دول تصلح مثالاً ضمن ذلك السياق. ثانيهما؛ إن التعايش كان ممكناً بين حكم الجيش والساسة المدنيين في مجتمعات اتسم واقعها الاجتماعي بنوع من التسليم بالأمر الواقع، وبالتالي التردد والخوف أمام المجهول، كأن لسان حال الناس كان يردد المثل ذا المضمون الشائع: «جن تعرف خير من آخر تجهل».
هل معنى هذا أن التفاهم مستحيل، حالياً، بين أهل السودان؟ هل يجب اليأس من أي اتفاق بين ذوي ربطات العنق، أو الجلباب الشعبي، من جهة، ومرتدي اللباس العسكري، في الجهة المقابلة؟ كلا، ليس بالضرورة. لم يزل الوقت يسمح لكل طرف أن يفسح المجال أمام التنازل عن التشدد إزاء أمر محدد، فتزول معوقات تحول دون عودة الهدوء، واستئناف الحياة. لكن هكذا تفاهم لن يعني أن الاستحالة انتفت عن المهمة في صيرورتها المستقبلية. لعل من الواجب أن أبدي شيئاً من الأسف، مسبقاً، إذا توقعت أن ينهار أي تحالف عسكري - مدني قائم على التشارك في حكم السودان، مستقبلاً، لأنه، في الأغلب الأعم، سوف يبقى مؤقتاً، فإذا انفجر دمل هنا، أو تورم هناك، كان الانقلاب هو الحل.
في مقال له بعدد «الشرق الأوسط» يوم 2021/10/20 قال فؤاد مطر إن «خير الأمور استدامة الشراكة». معروف لكل متابع أن الكاتب الصحافي الكبير هو أحد القلائل بين خير العارفين بالواقع السوداني، مجتمعاً وساسةً وناساً، وهو أصاب في إعطاء «استدامة الشراكة» وصف «خير الأمور» أملاً في تجنيب السودان ما وقع بعد خمسة أيام من نشر مقاله. لست أدري ما إذا كان الأستاذ مطر، يوافق الآن على أن تلك الشراكة السودانية، تحديداً، تستحق ذلك التوصيف السينمائي ذاته، بمعنى أنها «مهمة مستحيلة» الاستمرار، حتى لو تحققت ردحاً من الوقت.

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مهمة سودانية مستحيلة مهمة سودانية مستحيلة



GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 18:25 2024 الخميس ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

الخاسر... الثاني من اليمين

GMT 18:10 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

جمعية يافا ومهرجان الزيتون والرسائل العميقة

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 15:24 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

أفكار لتوزيع قطع الأثاث حول المدفأة
 لبنان اليوم - أفكار لتوزيع قطع الأثاث حول المدفأة

GMT 11:49 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة
 لبنان اليوم - انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة

GMT 14:56 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

"واتساب" يُعلن عن ميزة تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص
 لبنان اليوم - "واتساب" يُعلن عن ميزة تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص

GMT 09:51 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

فساتين الكاب تمنحك إطلالة ملكية فخمة

GMT 10:05 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

أفكار هدايا مبتكرة ومميزة في موسم الأعياد

GMT 08:48 2023 الأربعاء ,22 آذار/ مارس

أبرز العطور التي قدمتها دور الأزياء العالمية

GMT 15:27 2021 السبت ,10 إبريل / نيسان

علي ليو يتوج بلقب "عراق آيدول" الموسم الأول

GMT 11:57 2023 الأربعاء ,20 كانون الأول / ديسمبر

برومو ”الاسكندراني” يتخطى الـ 5 ملايين بعد ساعات من عرضه

GMT 16:26 2021 الإثنين ,20 أيلول / سبتمبر

بريشة : ناجي العلي

GMT 15:28 2024 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

أفكار لاستغلال زوايا المنزل وتحويلها لبقعة آسرة وأنيقة

GMT 09:37 2022 الخميس ,21 تموز / يوليو

طرق تنظيم وقت الأطفال بين الدراسة والمرح

GMT 14:26 2017 الجمعة ,15 كانون الأول / ديسمبر

متوسط أسعار الذهب في أسواق المال في اليمن الجمعة

GMT 19:03 2019 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

منى عبد الوهاب تعود بفيلم جديد مع محمد حفظي

GMT 17:45 2021 الخميس ,21 تشرين الأول / أكتوبر

الكاظمي يؤكد العمل على حماية المتظاهرين بالدستور
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon