يعانى الاقتصاد المصرى كابوسا حقيقيا يتمثل فى الاحتكارات الإنتاجية والتجارية المهيمنة على حركة الاقتصاد. وتؤدى تلك الاحتكارات فى النهاية إلى رفع الأسعار بصورة مبالغ فيها لا علاقة لها بتكلفة الإنتاج أو الاستيراد.
ومعروف أن ارتفاع الأسعار يؤدى فى النهاية إلى إعادة توزيع الدخل لصالح الأثرياء وأصحاب الملكيات، على حساب الفقراء والطبقة الوسطى وبالذات من يعملون بأجر. وتلك الاحتكارات بعضها مصرى والبعض الآخر أجنبى فى قطاعات أبرزها الأسمنت والنفط والغاز منذ فتح الاقتصاد المصرى لهيمنة الأجانب بلا ضوابط فى بداية تسعينيات القرن العشرين، والذى وصل لذروته من خلال برنامج الخصخصة الذى تضمن قدرا مروعا من الفساد وإهدار المال العام الذى لم يحاسب عليه مبارك ونظامه حتى الآن.
وهناك ترابط وثيق بين تنامى الاحتكارات والفساد من جهة، وبرنامج الخصخصة من جهة أخرى، حيث انتقلت احتكارات الدولة السائدة فى فترة هيمنة القطاع العام على الصناعة التحويلية والخدمات، إلى القطاع الخاص المحلى والأجنبى مباشرة عند بيع تلك المشروعات العامة له فى إطار برنامج الخصخصة. ولأن ذلك الانتقال تم فى غالبيته الكاسحة عبر صفقات فساد مروعة، فإنه أسس لمستوى جديد من الفساد المنظم والشامل الذى لم يتوقف عند برنامج الخصخصة، بل انتقل إلى عمليات منح الأراضى للتنمية الزراعية والصناعية، وإرساء العقود العامة. كما أسست عملية الخصخصة لبناء تحالفات احتكارية خاصة محلية وأجنبية. وخرج نموذج احتكار القِلة من صفحات الكتب التى يدرسها طلبة الاقتصاد ليتسيد فى أرض الواقع فى مصر ويحيل حياة الفقراء والطبقة الوسطى إلى جحيم من ارتفاعات الأسعار التى تؤدى إلى تآكل القيمة الحقيقية لدخولهم.
الاحتكار ونهب المستهلكين
فى مقال قريب تم تناول احتكارات الحديد والأسمنت وعمليات النهب المنظمة للمستهلكين وعلى رأسهم الحكومة التى تعد المستهلك الأكبر للحديد والأسمنت فى مشروعات البنية الأساسية. وذلك النهب بدأ منذ أن تمت خصخصة شركات القطاع العام العاملة فى قطاع الأسمنت، واستحواذ أحد رجال اعمال عهد مبارك على أكبر شركة منتجة لحديد التسليح. لكن احتكارات القِلة أوسع نطاقا من مجرد صناعتى الحديد والأسمنت، فهى تشمل عددا كبيرا من الصناعات على رأسها صناعات الأسمدة والسيراميك ومنتجات الألبان. كما أن هناك احتكارات تجارية كبيرة فى مجال استيراد القمح والذرة والسكر واللحوم والسلالات الحيوانية والمبيدات والمخصبات والبذور وغيرها من السلع الاستهلاكية والوسيطة والاستثمارية.
ويساهم قانون الاستيراد للاتجار فى تعزيز مناخ الاحتكار، حيث ينص على أن تكون البطاقة الاستيرادية محددة بعدد من السلع المقيدة فيها (قانون الاستيراد والتصدير، الفصل الثاني، الاستيراد للاتجار، المادة 12). والأفضل هو فتح البطاقة الاستيرادية لتشمل كل السلع، على أن تطبق على الواردات كل الإجراءات الجمركية والصحية والمتعلقة بالمواصفات أيا كان من يستوردها. واستمرار الوضع الراهن يسهل استمرار احتكار البعض لاستيراد بعض السلع. وهو ما يضر بالمستهلكين فى النهاية لأنهم يحصلون على تلك السلع بأسعار أعلى كثيرا من تكلفة استيرادها، وبالمقابل يحقق المستوردون أرباحا استثنائية جائرة على حساب المستهلكين.
وكان الدكتور جودة عبد الخالق وزير التموين الأسبق قد طلب عندما كان فى منصبه الوزارى ضرورة تحديد معدل للربح على الواردات بالتوافق مع الغرف التجارية، بحيث يحقق المستورد معدلا معتدلا للربح، ويحصل المستهلك على السلعة المستوردة بسعر معتدل ومحدد على اساس تكلفة الاستيراد والجمارك والنقل والتخزين، وليس بناء على أسعار احتكارية تعتدى على حقوق المستهلكين. لكن ذلك الطلب العقلانى المتوازن قُوبل بالرفض لتغطية استمرار السياسات الاحتكارية لبعض المستوردين. وبالإضافة إلى ذلك فإن هناك ضرورة لتوحيد فاتورة الاستيراد التى يتم على أساسها تسديد الجمارك، وتسديد الضرائب على الأرباح المتحققة من بيع تلك السلع المستوردة.
ونتيجة للاحتكارات الإنتاجية والتجارية السائدة والمهيمنة من عصر مبارك وحتى الآن فإن معدل ارتفاع أسعار المستهلكين (مؤشر معدل التضخم) فى مصر يظل بين الدول المرتفعة حتى فى ظروف إقليمية ودولية يتراجع فيها هذا المؤشر. وتشير البيانات الرسمية والدولية (IMF, World Economic Outlook, October 2014, p. 191, 194) إلى أن معدل ارتفاع أسعار المستهلكين فى مصر سيرتفع من 6.9% عام 2013، إلى 10.1% فى العام الجارى 2014، وأنه من المقدر له ان يرتفع إلى 13,5% فى العام 2015. وبالمقابل فإن المعدل بلغ 1.4% فى الدول المتقدمة، ونحو 5.9% فى الدول النامية عام 2013، وسيبلغ المعدل نحو 1.6% فى الدول المتقدمة، ونحو 5.5% فى الدول النامية فى عام 2014. كما سيبلغ المعدل وفقا للتوقعات المستقبلية لعام 2015 نحو 1.8% فى الدول المتقدمة، ونحو 5.6% فى الدول النامية. وكما هو واضح فإن المعدل فى مصر أعلى كثيرا من نظيره فى الدول المتقدمة والنامية على حد سواء. كما أن مستوى ارتفاعه عن تلك الدول يتزايد على نحو يثير القلق بشأن السيطرة على هذا المعدل، بما يتطلب اتخاذ إجراءات قوية لضمان أسعار معتدلة للمنتجات المحلية والمستوردة. وهذه الأسعار المعتدلة لابد ان تكون مبنية على اساس تكلفة الإنتاج والاستيراد وليس على المزاج الاحتكارى للمنتجين أو المستوردين.
والحقيقة أن الممارسات الاحتكارية هى جزء من سياق عام لممارسات الاستغلال والفساد التى أُرسيت قواعدها الاستغلالية فى عصر مبارك. وهذا الحكم لا يتضمن اى تجن على ذلك العهد البائس. وإذا كانت الأنباء المنشورة التى خرجت بشأن التسوية التى يجرى إعدادها بين حسين سالم، والنيابة العامة تشير إلى استعداده للتصالح مقابل سداد 22.5 مليار جنيه، فإن ذلك يعطى مؤشرا على حجم ما حصل عليه ويتصالح بشأنه وهو لم يكن أكثر من موظف عام لدى جهة سيادية قبل أن يتحول لرجل أعمال استفاد بصورة هائلة من قربه من رأس السلطة فى عهد مبارك.
كما أن جزءا مهما من تلك الاحتكارات تأسس من خلال جبال الأموال التى حصل عليها بعض رجال أعمال الحزب الوطنى المنحل من منحهم أراضى التنمية الزراعية والصناعية بدون حساب أو معايير عادلة، ودون محاسبة على توظيفها أو الاتجار فيها، وهى قضية تحتاج وحدها لمقالات قادمة. كما تأسس مناخ الفساد نفسه وجزء كبير من أموال من تورطوا فيه من خلال برنامج الخصخصة الذى اهدر نظام مبارك من خلاله ما بنته الاجيال والحكومات السابقة بثمن بخس. ولم تكن مصادفة او عدوانا على التعاقدات، أن يحكم القضاء المصرى باستعادة الدولة لبعض الشركات التى كان الفساد فى عقود بيعها أى خصخصتها ظاهرا وجليا. وهذا الأمر يدعونا لتأمل بعض صفقات الخصخصة وما أهدرته من أصول مصر وحقوق شعبها، فضلا عن إخراجها لمئات الآلاف من العاملين إلى صفوف العاطلين، وما أدت إليه من تدمير لبعض الصناعات الاستراتيجية مثل صناعة المراجل البخارية.
خصخصة مبارك.. الفساد وتوليد الاحتكار
عندما طرحت فكرة الخصخصة فى بداياتها الأولى فى مصر ، كان المستهدف بالخصخصة وفقا للمطروح آنذاك هو الشركات العامة الخاسرة باعتبار أن الخسارة تنم عن سوء الإدارة العامة وبالتالى فإن بيعها للقطاع الخاص الساعى لتحقيق أقصى ربح دائما يمكن أن يحولها إلى شركات رابحة. وكان ذلك التصور للخصخصة وسيلة لحشد التأييد العام لفكرة الخصخصة. لكن الذى تم بيعه فعليا هو أفضل الشركات الرابحة.
كما تم استخدام عائد الخصخصة وبيع رخصة الشبكة الثالثة للتليفون المحمول لتضخيم حجم تدفقات الاستثمار المباشر فى عهد حكومة نظيف. كما أن الاستثمارات فى التنقيب والاستكشاف والاستخراج للنفط والغاز والتى لم تكن تحتسب ضمن تلك الاستثمارات تم احتسابها فى عهد تلك الحكومة لتضخيم الرقم والإيهام بتحقيق إنجاز كبير. ومن المتعارف عليه أن الاستثمارات الأجنبية المباشرة التى تشترى أصولا قائمة بالفعل فى أى دولة هى استثمارات زائفة لأنها لم تضف أصولا للاقتصاد وإنما تدفقات مالية قد لا تستخدم فى إنشاء أصول جديدة وهو الأمر المرجح لحكومات مبارك المتعاقبة التى باعت الأصول التى بنتها الأجيال والحكومات السابقة، حتى تمول إنفاقها الجارى لتغطية عجزها عن تطوير النشاط الاقتصادى وتمويل الإنفاق العام من خلال الإيرادات الناتجة عن هذا النشاط. وحتى لا يكون الأمر مجرد إشارة لسوء إدارة عملية الخصخصة، سنعرض لبعض صفقاتها لنترك الحكم للقراء على ما فعله مبارك بأصول مصر ومنجزات شعبها وحكوماتها السابقة عليه...
1-صفقة بيع شركة النصر للغلايات (المراجل البخارية) :
تعتبر تلك الصفقة علامة مميزة على الفساد الذى يمكن أن يكتنف عملية الخصخصة. وتبلغ المساحة المقامة عليها الشركة 31 فدانا أى أكثر من 130 ألف متر مربع، وتقع الشركة فى منطقة منيل شيحة على النيل مباشرة قبالة حى المعادى على الجهة الأخرى من النيل. وقد قدمت خمسة عروض لشراء هذه الشركة عند عرضها للبيع، وكل العروض قدمت من شركات أجنبية تنتمى إلى الولايات المتحدة وكندا وفرنسا وإيطاليا واليابان.
وكانت الشركة قبل خصخصتها تضم 1100 عامل ، وكانت تنتج أوعية الضغط من طن واحد إلى 12 طنا وبسعات تصل إلى 1300 طن بخار فى الساعة ومراجل توليد الكهرباء وأوعية غازات سائلة ووحدات تنقية مياه الشرب وتحلية مياه البحر وغيرها من المنتجات. وكانت الشركة تحقق أرباحا حتى العام المالى 1991 ، قبل أن تدخل فى توسعات استثمارية حولتها إلى شركة مديونة وخاسرة قبل أن يتم بيعها. وربما كان دفع هذه الشركة الى هاوية الديون والخسارة عملا متعمدا لتبرير بيعها، لأنه ليس هناك أى منطق فى دخول شركة سيتم بيعها فى استثمارات جديدة توقعها فى أزمة مديونية. لكن «تخسير» الشركات الرابحة والمهمة هو سلوك تلجأ إليه الجهات المسئولة عن خصخصة القطاع العام فى العديد من البلدان النامية لتبرير بيع شركات استراتيجية تقوم بدور حيوى فى الاقتصاد أمام المعارضين لهذا البيع. وللعلم فإن الشركة قبل خصخصتها كانت تتبع الشركة القابضة للصناعات الهندسية التى كان يرأس مجلس إدارتها عبد الوهاب الحباك الذى حوكم بعد ذلك بعد أن أدت خلافات عائلية خاصة بعلاقته بزوجتيه الى كشف الفساد الذى تضمنته تلك الصفقة.
وقد أسندت عملية تقييم ثمن الشركة الى بيت خبرة أمريكى يتبع شركة «بكتل» العقارية العملاقة ويمثله محام مصرى شهير. وتم تقدير ثمن الشركة من قبل بيت الخبرة المذكور بما يتراوح بين 16 و 24 مليون دولار. وهو سعر يقل كثيرا عن سعر الأرض المقامة عليها الشركة لو تم تقييمها كأرض بناء حيث يبلغ هذا السعر ما يوازى نحو 100 مليون دولار أو نحو 330 مليون جنيه آنذاك.
وفى 13/12/1994 قام مجلس إدارة الشركة بالحصول على موافقة الجمعية العامة لشركة الصناعات الهندسية ببيع الأصول الثابتة للشركة بمبلغ 11 مليون دولار، وبيع المخزون بمبلغ 6 ملايين دولار بحيث تصبح القيمة الإجمالية للشركة ومخزونها 17 مليون دولار. وتم البيع إلى شركة أمريكية كندية هى شركة «بابكو اند ويلكوكس» دون التزام الشركة المشترية بسداد الديون والضرائب المستحقة على شركة النصر للغلايات. وبعد خصم تلك المستحقات ، أصبح المتبقى من ثمن الشركة نحو 2.5 مليون جنيه مصرى أى أقل من ثلاثة أرباع مليون دولار وبعد عملية البيع تم اسناد عملية محطة كهرباء الكريمات بقيمة 600 مليون دولار الى الشركة الأمريكية الكندية المشترية لشركة المراجل البخارية المصرية!!
ولأن الفساد اتخذ أبعاداً درامية فى تلك الصفقة فإن الأمر انتهى بإيقاف إنتاج الغلايات العملاقة التى تعتمد عليها محطات الكهرباء ، فقد وجدت الشركة الأمريكية الكندية التى اشترت الشركة أن مصلحتها تقتضى أن تشترى مصر المراجل البخارية من الخارج، بدلا من إنتاجها محليا أما العمالة فإن صفقة البيع لم تضمن حمايتها إلا لثلاثة أعوام. وبذلك كسبت الشركة المشترية السوق المصرية وأرض الشركة ودمرت واحدة من أهم صناعاتنا الوطنية. وإذا مضت مصر قدما فى برنامجها النووى السلمى فإنها ستكون مضطرة إلى الاستيراد الغلايات العملاقة أو بناء مصنع جديد بعشرات أضعاف سعر البيع المزرى لشركة المراجل البخارية التى كانت تنتج مثل تلك الغلايات.
2- خصخصة شركة الزجاج المسطح :
بيعت الشركة المصرية للزجاج المسطح عن طريق عروض شراء من العديد من الشركات الأجنبية، علما بأن المالك الرئيسى لهذه الشركة هو القطاع العام، الذى كان يملك أكثر من 70% من أسهمها متمثلة فى ملكيات شركة الصناعات المعدنية (12.5%)، بنك الاستثمار القومى (11.4%)، بنك التنمية الصناعية (10%)، شركة التأمين الأهلية (8.80%)، الهيئة المصرية العامة للبترول (8.6%) ، البنك الأهلى (7.4%)، شركة الشرق للتأمين (6.4%) ، بنك الإسكندرية (5.0%). وتملك شركة «بلكنجتون انترناشيونال هولدنج بى فى» الهولندية المملوكة بالكامل لشركة «بلكنجتون بى إل سى» البريطانية، (10% ) من أسهم الشركة المصرية للزجاج المسطح. ويبلغ رأسمالها المفوع 150 مليون جنيه ، بينما بلغت حقوق المساهمين فى نهاية سبتمبر 2001 ، نحو 183 مليون جنيه(راجع الهيئة العامة لسوق المال ، الشركات المالية-نظام التحليل المالى ، قائمة المركز المالى للشركة فى 30/9/2001).
أما بالنسبة لإجمالى استثمارات الشركة فإنها بلغت 600 مليون جنيه وقد بلغت قيمة الأرباح الإجمالية للشركة المصرية للزجاج المسطح فى الاثنى عشر شهرا المنتهية فى 30/9/2001 ، نحو 50.3 مليون جنيه بنسبة 33.5% من رأسمالها المدفوع البالغ 150 مليون جنيه ، ونحو 27.5% من إجمالى حقوق المساهمين التى بلغت نحو 183 مليون جنيه فى نهاية سبتمبر من العام الماضى، ونحو 8.3% من إجمالى قيمة الاستثمارات البالغة نحو 600 مليون جنيه. أما الأرباح الصافية فقد بلغت 27.1 مليون جنيه فى الاثنى عشر شهرا المنتهية فى نهاية سبتمبر 2001 ، بما يوازى 18.1% من إجمالى رأس المال المدفوع، ونحو 14.8% من إجمالى حقوق المساهمين ، ونحو 4.5% من إجمالى قيمة استثماراتها.(بيانات الأرباح الإجمالية والصافية مأخوذة من: (راجع ، الهيئة العامة لسوق المال ، الشركات المالية-نظام التحليل المالى، قائمة المركز المالى للشركة فى 30/9/2001). ورغم أن الفارق بين إجمالى الأرباح وصافى الأرباح يعد ضخما ويحتاج لمراجعة بنود المصروفات العادية وغير العادية، إلا أن الشركة تظل متميزة الأداء.
وخلال عملية المنافسة بين الشركات الراغبة فى شراء الشركة المصرية للزجاج المسطح، قدمت تلك الشركات أسعارا منخفضة كثيرا عن القيمة الحقيقية للشركة. وكانت شركة «جارديان» الأمريكية هى أول من تقدم بعرض للشراء، وهذه الشركة مملوكة ليهودى صهيونى (دافيدسون) وتقدم سنويا تبرعات ضخمة لإسرائيل، أى انها شركة معادية لمصر والعرب عموما. وقد قدمت الشركة فى عرضها الأول سعرا متدنيا للغاية للسهم، ثم عرضت شركة بلكنجتون شراء السهم بـ160 جنيها للسهم، مما دفع شركة «جارديان» الأمريكية لرفع عرضها إلى 169 جنيها للسهم. ومقابل ذلك العرض الأمريكى قامت شركة بلكنجتون بتقديم عرض منشور صحفيا فى 13/5/2002(جريدة الأهرام) لشراء السهم بسعر 171 جنيها ، ثم قدمت عرضا جديدا فى 20/5/2002(جريدة الأهرام) لشراء السهم بسعر 175 جنيها على أن تشترى 70% على الأقل من أسهم الشركة تضاف إلى الـ 10% التى تملكها بالفعل لتصبح مالكة لنسبة 80% من أسهم الشركة على الأقل.
ووفقا لأعلى سعر ، فإن ثمن الشركة بأكملها يصبح 306.3 مليون جنيه منها 30.6 مليون جنيه قيمة الحصة القائمة فعلا لشركة بلكنجتون ، ليتبقى 275.7 مليون جنيه، منها نحو 214.2 مليون جنيه حصة الشركات العامة. وقد نجحت الحملة التى تم تحريكها من وزارة قطاع الأعمال نفسها ومن رئيس الوزراء آنذاك الدكتور عاطف عبيد، فى إبعاد الشركة الأمريكية الصهيونية لتذهب الصفقة إلى مستثمر عربى كانت تربطه علاقات عمل مع رئيس الوزراء الأسبق، وفى الحالتين هناك اهدار للمال العام.
ومن الجلى أن سعر البيع لا علاقة له بقيمة الاستثمارات أو أداء الشركة. وإذا حاولت مصر تطوير استغلال الطاقة الشمسية، فإنها ستدرك حجم خسائرها من بيع تلك الشركة التى كان من الممكن أن تكون الذراع الرئيسية لإنتاج المرايا المستخدمة فى محطات الطاقة الشمسية. وإن كان من الضرورى الإشارة إلى أن توافر الرمل الزجاجى العالى النوعية فى جنوب غرب سيناء، يمكن أن يشكل أساسا لبناء صناعة جديدة للزجاج والمرايا سواء تم ذلك من خلال الدولة مع التمويل شعبيا على غرار ما تم فى تمويل مشروع قناة السويس، أو باكتتاب عام لبناء شركة يملكها حملة الأسهم.
ونفس الإهدار للمال العام ولما بنته الحكومات والأجيال السابقة، حدث مع الشركات العامة العاملة فى مجال الأسمنت والحديد والفنادق والمياه الغازية والبنوك والمصرية لخدمات التليفون المحمول حيث تمت خصخصتها فى صفقات مهدرة للمال العام بصورة مروعة وكتبت عنها فى حينه ونشرت تحليلا لصفقات البيع فى أكثر من كتاب، لعل أبرزها كتابا «الانهيار الاقتصادى فى عصر مبارك... حقائق الفساد والبطالة والركود والغلاء» والذى صدر عام 2005، وقام المجلس الأعلى للثقافة بإعادة إصداره مع فصل إضافى بعد الثورة. وكانت عمليات التقييم نفسها تتم بصورة فاسدة منهجيا من خلال تقييم سعر متر الأرض فى المشروع العام بسعر الأرض فى أقرب منطقة صناعية، مما جعل شركة مثل طنطا للكتان والتى تملك أرضا لا تقل قيمتها وقت بيعها عن مليار جنيه تباع كلها بـ 83 مليون جنيه بالتقسيط!!
وأختم بلمحة خاطفة عن بيع المصرية لخدمات المحمول الذى تم مقابل 1.7 مليار جنيه مقابل الشركة ومحاطاتها وعدد الاشتراكات والوضع الاحتكارى المنفرد بالسوق، بينما عرضت وزيرة الشئون الاجتماعية آنذاك د. ميرفت التلاوى شراءها بمليارى جنيه من اموال التأمينات لمصلحة أرباب المعاشات، ولم ينظر فى طلبها. وبعد ستة أعوام تم بيع مجرد رخصة شبكة المحمول الثالثة بـ 16 مليار جنيه، وهو مؤشر على القيمة الحقيقية التى أهدرت لدى بيع الشركة الأولى بدون أى مبرر لأنها كانت تحقق أرباحا هائلة، فضلا عن أن الطبيعة الإستراتيجية والأمنية لقطاع الاتصالات كانت تفرض عدم خصخصة الشركة.
لقد سحق الفساد الذى تعملق بصورة مروعة فى عهد مبارك كل قيم النزاهة والشفافية وسفه قيم الحكم، وشكل أساسا لتنامى الاحتكارات والمصالح الفاسدة التى تعتدى على حقوق المستهلكين، والتى تستدعى إصلاحا اقتصاديا وتشريعيا لبناء بيئة جديدة للتنمية العادلة لا علاقة لها بفساد عصر مبارك واحتكاراته.