عمار علي حسن
خرجت جماعة «الإخوان» بربح وفير من السنوات العشر التى عاشوها فى كنف نظام أنور السادات، حلفاء له فى البداية ثم خصوماً فى النهاية. فقد نقلوا وجودهم من الهامش المنسى إلى متن الأحداث، وتبدلت أحوالهم من عدم الفاعلية إلى التأثير الشديد فى مجرى الحياة الاجتماعية والسياسية، بعد أن بنوا شبكات اجتماعية فاعلة، إما بالنفخ فى أوصال شبكاتهم الذاتية التى تقطعت أوصالها وخفت وجودها فى أواخر الستينات، أو باستغلال الشبكات التى بقيت على حالها وتعززت إمكاناتها فى كنف الدولة، لا سيما «الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة».
ورغم أن السادات قد غضب على الجماعة، وسجن مرشدها عمر التلمسانى مع من سجنهم فى سبتمبر 1981، فإنه لم يقدم على إجراءات صارمة وجذرية ضدها مثلما فعل سلفه عبدالناصر. ومن الممكن أن يكون السادات قد خطط لتحجيم الجماعة، وبشكل حاد، بعد أن استخدمها هى وأشباهها فى ضرب اليسار المصرى، لكن القدر لم يمهله لينفذ النصف الثانى من خطته، بالاستدارة إلى أتباع الجماعات الدينية السياسية للتخلص من نفوذهم الاجتماعى والسياسى والانفراد التام بحكم البلاد بغير منغصات ولا أسباب للانزعاج، وهو الاتجاه الذى كان قد بدأ بتحجيم نفوذ هذه الجماعات بالجامعات بصدور اللائحة الطلابية لعام 1979، من خلال قرار جمهورى ألغى الاتحادات الطلابية للكليات، والتى كان يسيطر الإخوان عليها، وإعادة تشكيلها بتكوين جديد. وكانت نتيجة هذا أن الإخوان خرجوا من زمن السادات بغير ما دخلوه، فصاروا قوة اجتماعية يُحسب حسابها، ولذا أقدم حزب الوفد على التحالف الانتخابى مع الجماعة فى 1984 وبعده «العمل» و«الأحرار» فى 1987. وقد اضطر مبارك، رغم كراهيته الشديدة للإخوان، إلى أن يتعايش معهم، فلا يواجههم بالكامل فينقلهم إلى ممارسة العنف السافر مثلما فعل عبدالناصر، ولا يترك لهم فرصة التمدد الاجتماعى بالكامل مثلما فعل السادات فى السنوات الست الأولى لحكمه، لكن الجماعة كان قد بنت كتلتها الحية العصية على الاستئصال أو العودة إلى الهامش البارد مرة أخرى، ففرضت نفسها رقماً سياسياً طيلة زمن مبارك، وهذه ثمرة جنتها فى أيام السادات.
ولهذا ظل السادات فى موضع مختلف عند الإخوان، رغم الخلاف معه فى سنواته الأخيرة، إذا قورن بعبدالناصر، أو حتى حسنى مبارك. فأدبيات الجماعة، وإن كانت قد حوت انتقادات لتصرفات وسياسات وخطابات السادات، فإنها لم تحمل حنقاً شديداً وحقداً مريراً وغضباً عارماً حياله كتلك التى حوتها عن عبدالناصر.
وبعد قيام ثورة يناير 2011 استعار الإخوان زمن السادات وطرحوه أمام المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذى كلفه مبارك بإدارة شئون البلاد بعد أن «تخلى عن منصب رئيس الجمهورية»، حتى يثبتوا للجيش أن التعامل معهم ليس مستحيلاً، بل يمكن لمن آل إليهم حكم البلاد أن يعتمدوا على الجماعة. ويبدو أن هذا المسلك قد وجد صدى لديهم بدليل ما جرى من تعديلات دستورية استُفتى الشعب عليها فى 19 مارس 2011 مثّلت بداية حقيقية لزحف الإخوان إلى السلطة السياسية. لكن بعد 30 يوينو استعاد الإعلام المناصر لانتفاضة المصريين وقرارات المجلس الأعلى للقوات المسلحة التى انحازت لرغبة الشعب فى إنهاء حكم الإخوان أجزاء من خطب السادات التى هاجم فيها جماعة الإخوان بشدة، ووظفها فى مهاجمة الجماعة، وإظهار تنكرها حتى لمن مد لها يد العون وساعدها على العودة إلى الحياة الاجتماعية والسياسية.
على وجه العموم تبدو تجربة الإخوان مع السادات مفيدة إلى حد بعيد فى تحديد جانب من المسارات المستقبلية للجماعة بعد إسقاطها عن الحكم، لا سيما إن اختارت العودة إلى التحايل من جديد، فتتودد للسلطة السياسية، أملاً فى استيعابها ودمجها مرة أخرى، بما يعطيها فرصة أخرى لوصل شبكاتها الاجتماعية المتقطعة، وتحسين صورتها التى نال منها كثيراً عودتها إلى الدم، وإخفاقها فى الحكم، وتآمرها على الدولة المصرية. على الوجه الآخر تفيد هذه التجربة فى بناء مدركات السلطة الحالية والمقبلة فى مصر حيال التعامل مع الإخوان، فهم يُظهرون لأى سلطة متحالفة معهم، أو تنظر إليهم بعين الثقة، أو تتعاون معهم جزئياً، وجهاً إيجابياً إلى أن يشتد ساعدهم ثم ينقضون عليها، لأنهم فى النهاية لا يمكنهم التآلف مع الدولة التى يسعون إلى هدمها بتطبيق إطار سياسى واجتماعى وقانونى مخالف فى تسيير أمورها، وبالانحياز إلى الوجهة الأممية، التى يقولون عنها «دولة من غانا إلى فرغانة».