عمار علي حسن
مَن يمعن النظر فى المعارك الفكرية التى شهدتها مصر على مدار القرن العشرين يخرج بنتيجة عريضة، تلخص المشهد العام للنزال الفكرى الذى شحذ الهمم وأجلى العقول وألهب الحناجر وأوغر الصدور، وهى أن التحديات التى طرحها أصحاب الأفكار «غير المألوفة» كانت دوماً أكبر من الاستجابات التى جاد بها من تصدوا لتلك الأفكار ومنتجيها، ليس لأن أتباع الفريق الأول أقوى حجة وأنصع برهاناً وأثبت مراساً وأسلس عرضاً، بل لأن أغلب أنصار الفريق الثانى لم يحسنوا اختيار أداة النزال، مما قاد فى النهاية إلى ترك هذه المعارك من دون حسم، وجعل توابعها تتجدد من آن لآخر، حتى مع حلول القرن الحادى والعشرين، وجعل كثيرين يشعرون بأننا نحرث البحر أو نتحرك فى المكان نفسه.
وتحت هذه النتيجة الكلية هناك استنتاجات فرعية، لا تخطئها عين بصيرة، ولا يهملها عقل فهيم، يمكن سردها على النحو التالى:
1- كل المحاولات التى رمت إلى مواجهة الفكر بغير الفكر انتهت إلى عكس ما قصد أصحابها، فالكتب التى حوربت إما باتهام أصحابها بالكفر والمروق أو الخيانة والعمالة، وكانت الدوافع السياسية أكبر من العناصر الفكرية فى التصدى لها، باتت أكثر شهرة وأوسع رواجاً وبدا أصحابها «أبطالاً» حتى فى نظر بعض العوام، وحصدوا من المكانة ما لم يكن بوسعهم أن يبلغوا لو ظهر من يفند أفكارهم، وكثير منها متهافت الصنعة ضعيف البنيان عن طريق الرأى العلمى، الذى يستخدم أدوات البحث الحديثة، وينطلق من اقتناع تام بأن الطريق أمام البحث المنهجى يجب أن يكون عريضاً، خالياً من أى عثرات.
2- إن الحكم على كثير من الأفكار التى دارت حولها تلك المعارك، لم يخل أحياناً، من التربص الذى صنعته الضغائن الشخصية، والسعى إلى تصفية الحسابات، والانتصار للمصالح الضيقة، حتى لو كان هذا على حساب الحق والحقيقة.
3- إن التعامل مع نوايا من أثاروا تلك المعارك الفكرية على أنها «خبيثة» على الدوام، مسألة تفتقد إلى الدقة، وتحتاج إلى مراجعة تامة، وتتطلب تفاديها مستقبلاً، فبعض هؤلاء وقع ضحية لنقص المعلومات وتشويهها أو التأويلات الخاطئة للنصوص، أو التسرع فى إصدار الأحكام، وبعضهم أراد أن يدافع عن الإسلام فراح يجتهد، وكان يجب التعامل مع ما أنتجه على أنه «اجتهاد خاطئ» وليس مؤامرة لتشويه الإسلام أو النيل من الهوية المصرية. وبعضهم كان يرمى إلى منع آخرين من استغلال الإسلام فى تحصيل مكانة سياسية أو مكاسب مادية، وبعضهم أراد أن يلقى حجراً فى بحيرة الفقه الراكدة ليمنعها من التعفن، بفعل الفجوة الزمنية الواسعة بين تخرج الأحكام وحركة الواقع المعيش، وهناك من كان به علة من نقص، فأراد أن يلفت الانتباه إليه فتجرأ على العقيدة، وصدم الناس فى دينهم، واتبع مبدأ «خالف تعرف»، طارحاً أفكاراً غريبة لا دليل عليها، وليس بوسعها أن تصمد أمام أى حجة.
4- كثير من أصحاب هذه الآراء حادوا عنها، بعضهم انقلب عليها مائة وثمانين درجة، مثل خالد محمد خالد، الذى ألف كتاباً بعنوان «دين ودولة» تراجع فيه تماماً عما جاء فى كتابه «من هنا نبدأ» من اقتناع بفصل الدين عن الدولة، وبعضهم راح يعدل جزئياً فى أفكاره مثل طه حسين، الذى أعاد طبع «فى الشعر الجاهلى» بعد أن حذف منه ما أغضب الناس، لكنه لم يفعل الشىء نفسه حيال كتابه الآخر «مستقبل الثقافة فى مصر»، الذى كانت نقطة الشد والجذب فيه تدور حول «الهوية» وليست «العقيدة»، أما منصور فهمى فصدمه ما قوبل به من «استهجان اجتماعى» فراح يعيد قراءة المراجع التى اعتمد عليها فى أطروحته للدكتواره عن «المرأة فى الإسلام» فاكتشف أنه لم يتأن فى الإحاطة بكل ما جاء به النص الإسلامى من قرآن وسنة، وما أنتجه الفقهاء فى هذا الشأن، فلما أحاط علماً بكل ما يتعلق بموضوع بحثه، غيّر أفكاره، وتحول إلى الدفاع عن الإسلام، لكن هذا لم يمنعه أن يظل حتى آخر أيام عمره غاضباً من عدم توافر حرية الفكر وحق الاجتهاد. وهناك من أصر على موقفه حتى آخر أيام حياته، مثل الشيخ على عبدالرازق، الذى بدا واثقاً مما انتهى إليه فى كتابه الصغير الأثير «الإسلام وأصول الحكم».
ومعنى هذا أن الجدل الفكرى، ومقارعة الحجة بالحجة، وتوافر شروط النقد الذاتى، كفيل بتعديل ما اعوج من فكر، وتقويم ما شذ من رأى. أما الإرهاب الفكرى، ورمى الناس بالفسوق والخيانة، قد يؤدى إلى عناد حتى ولو فى الباطل، بل يساعد ضعاف النفوس على تحقيق ما يسعون إليه من شهرة أو مال.