عمار علي حسن
سألنى أحد النقاد: لماذا تكتب رواية طويلة؟ وكان يشير فى سؤاله هذا إلى روايتىّ «سقوط الصمت»، و«جبل الطير»، فقلت له ابتداء، لم أقصد كتابة رواية طويلة، حين شرعت فى «جبل الطير»، لكن قانون تداعى الأحداث والمعانى، وتعدد الأمكنة وامتداد زمن الرواية لآلاف السنين من خلال ترحال بطلها فى القرون الغابرة وصولاً إلى أيامنا، جعل الرواية تتسع أمام قلمى، وأنا ألهث وراء بطلها الجموح، وأمعن النظر فى مراجع وكتب تخص مختلف الحقب التاريخية والطبقات الحضارية المصرية حتى يكون بوسعى تدقيق سياقات الرواية، من حيث صور البيئة وطبائع الناس ونوع الأزياء وشكل الطقوس ومضمونها والأساطير الشعبية المتداولة والرموز الدينية المعروفة والراسخة.
أعتقد أن كل رواية تختار لغتها وبناءها أو شكلها وكذلك حجمها، وكما أن لى روايتين طويلتين، هما: «جبل الطير»، و«سقوط الصمت»، فلى روايات حجمها أقل من هذا بكثير أحدها، وهى «حكاية شمردل»، لا تزيد صفحاتها على التسعين، وبقية رواياتى متوسطة الحجم تقريباً، ما عدا «شجرة العابد» التى يمكن أن يقال إن حجمها فوق المتوسط، لأنها تربو على الأربعمائة صفحة.
قد يظن البعض أن «جبل الطير» رواية كبيرة الحجم أو طويلة، لكن كان من الصعب معالجة موضوعها فنياً دون تحديد الخلفيات، وسرد التفاصيل، والرواية عموماً فى جانب منها هى فن صناعة التفاصيل، والعبرة فى النهاية بما إذا كانت الرواية مُحكمة من عدمه، فإذا كان من الممكن حذف أجزاء من الرواية دون إخلال بمضمونها وسير أحداثها، فهذا معناه أن الطول غير مبرر، وأن الكاتب قد أشبع سرده حتى صار متورماً، أما إذا كان أى حذف يخل بالمعنى وسير الوقائع الروائية، فهذا معناه أن الكاتب معذور فى إطالته، أو أن هذه الإطالة مبررة، لأن المعالجة الفنية والمضمونية فرضت هذا عليه.
كما أن القارئ يمكن أن يجد صعوبة فى قراءة رواية قصيرة الحجم لكنها معقدة أو غير مترابطة أو لا يشعر بالمتعة وهو يطالعها، وقد تتيسر أمامه القراءة، رغم طول الرواية، إن كانت جيدة من الناحية الفنية، وجذابة وممتعة، بل هناك من القراء من يتمنى، مع متعة النص الذى يطالعه، أن يمتد إلى ما لا نهاية.
والحمد لله، فإن كثيرين ممن قرأوا «جبل الطير» سواء من بين القراء أو النقاد أخبرونى بأن كبر حجمها لم يرهقهم، لأن الأحداث كانت تجذبهم، وهذا أسعدنى بلا شك، لكن أعتقد أن قراء آخرين لم يصلوا إلىَّ، وأصل إليهم ربما لديهم رأى آخر. والرأى الآخر هذا كان للناشر أيضاً، الذى لديه مقياس تجارى يقول إن الروايات الأكثر توزيعاً هى تلك التى تتراوح صفحاتها بين مائتى وخمسين وثلاثمائة وخمسين صفحة، لأنها تمنحه فرصة جيدة كى يضع عليها سعراً مناسباً بعد حساب التكاليف، وبالتالى يكون شراؤها فى مقدور عدد أكبر من القراء. لكن هذا لا يمنع الناشر من أن يتغاضى فى بعض الأحيان عن منطق السوق، وينظر إلى الرسالة التى عليه أن ينهض بها حيال مجتمعه، أو أن يكسب كاتباً يفيد اسمه دار النشر.
أما «سقوط الصمت»، فهى رواية وصفها النقاد بأنها «مشهدية» وقالوا إنها «رواية الثورة»، أو «ثورة فى رواية»، ومن ثم اتسعت صفحاتها بقدر اتساع حدث هائل شاركت فيه أخلاط من البشر، وصُنعت فيه ملايين المشاهد، وكان علىَّ أن أمعن فى الوصف وتمثيل كافة الشخصيات والنماذج البشرية الموجودة، حتى إذا جاء جيل لم يحضر الثورة وقرأ الرواية، فإنه سيكون قادراً على الإلمام بها وكأنه عاشها، ويزيد على ذلك أننى أكتب رواية وليس عملاً تسجيلياً أو تأريخياً، الأمر الذى يجعل للفن حظاً كبيراً فى البناء والمضمون، وهذا أيضاً يستهلك صفحات وصفحات.
ولا يضنى الكاتب أن يكتب رواية طويلة أو قصيرة، لكن يضنيه أن يكتب عملاً ويشعر بأنه ناقص، أو كان يحتاج إلى مزيد من التجويد، ولذا لا يجب عليه أن يكف عن إعمال قلمه فى نصه حتى يشعر برضاء عنه إلى حد ما، لكنه عليه ألا يفقد الطموح فى كتابة نص أفضل، وأن يجعل الخط البيانى لإبداعه يسير فى اتجاه متصاعد، ففى الكتابة لا تنفع القناعة ولا الزهد كما هو الحال فى الثروات والجاه والشهوات.