عمار علي حسن
من دون شك، فإن الصورة الأخيرة للمفكر الكبير الدكتور عبدالوهاب المسيرى، عززت الصورة الذهنية الإيجابية عنه، التى قامت على أكتاف كتبه العديدة، وفى مطلعها موسوعته الخالدة «اليهود واليهودية والصهيونية». فـ«المسيرى» كمفكر كان محل إعجاب شديد، لكنه آثر فى نهاية حياته أن ينزل إلى الشارع، ويهجر غرفة مكتبه التى شهدت ميلاد الأفكار وإعداد الأبحاث المطولة، ليشارك المصريين احتجاجهم على أداء السلطة، ومطالبتهم بالإصلاح. وبنزوله هذا حقق «المسيرى» نظرية «المثقف العضوى» التى وضعها المفكر الإيطالى أنطونيو جرامشى، التى تنتصر للمثقفين الذين لا يكتفون بإنتاج الأفكار، بل ينخرطون مع الجماعة فى سبيل نقل هذه الأفكار من بطون الكتب إلى رحاب الواقع.
وقرار «المسيرى» المشاركة فى الاحتجاج من خلال قبوله قيادة حركة «كفاية» لمدة عام تقريباً هو الذى أدى إلى ظهور الصورة الأخيرة فى حياته، وكانت مؤثرة فى نفوس وعقول كثيرين. فقد بدا الرجل الذى هده مرض عضال وهو يكاد يسقط على وجهه، بينما كانت مجموعة من رجال الشرطة ترتدى الزى المدنى يدفعونه إلى الأمام، وأنصاره ومحبوه يدفعون أيدى الشرطة عنه، ويحمونه بأيديهم فى الوقت نفسه.
كان «المسيرى» مقوس الظهر، و«بذلته» متهدلة، ونظارته متدلية عن مكانها قليلاً، وشعره مهوشاً، وملامحه يكسوها الأسى، لكنه بدا عازماً على التمسك بموقعه داخل المظاهرة المحدودة. وتوالت الصور، التى تم التعبير عنها كلامياً، لكن أحداً لم يرها، ومن بينها خطفه وزوجته وإلقاؤهما فى عمق الصحراء، عقب مظاهرة شاركا فيها، لكن الكلام أكد الصورة الأخيرة، التى رافقت خبر وفاة «المسيرى»، وأسهمت فى انتشاره على نطاق واسع، وفى إطلاق تعقيبات غزيرة عليه، تؤبن الرجل، وتعدد مآثره فى الفكر والنضال السياسى معاً.
وكانت الصورة الأخيرة للرئيس المصرى أنور السادات حافلة بالعبر، حيث ظهر وهو ملقى بين مقاعد «المنصة» الرئيسية والدم يسيل من رأسه، ويلطخ النياشين التى تكلل صدره. فهذه الصورة بقدر ما تبين نهاية غطرسة السلطة، فإنها توضّح بجلاء غدر الجماعات المتطرّفة التى اقترب منها «السادات» وعزّز وجودها. وهناك صورة الديكتاتور الرومانى نيقولاى شاوشيسكو وهو ملقى على الأرض بعد إعدامه رمياً بالرصاص، التى لخصت نهاية كل مستبد ظالم يستعبد شعبه ويستهين به.
إن الصورة الأخيرة قد تصنع رجلاً، أو تغفر لآخر خطاياه، وقد تصير أيقونة ورمزاً لكفاح بعض الآدميين وانتصارهم على الشدائد، وإصرارهم على حفر دور بارز فى مسيرة الإنسانية المفعمة بالأفراح والأتراح.