عمار علي حسن
لا يغلق زحام التنافس الشديد بين الدول الكبرى فى العالم على المكانة السياسية والاقتصادية والعسكرية، الطريق تماماً أمام أى دولة راغبة فى أن تنحت لها دوراً، سواء على المستوى الإقليمى أو الدولى، لكن على النخبة السياسية فى هذه الدولة أن تجلس قليلاً أو كثيراً لتتخيل هذا الدور، وتوظف إمكاناتها المادية والبشرية والعلمية فى تحقيقه.
وهذا الأمر ينطبق على العالم العربى الذى خاض معارك التحرير فى منتصف القرن العشرين ضد الاستعمار، ليجد نفسه الآن منهكاً بفعل تعثُّر الثورات والانتفاضات، وتوحُّش التيارات الدينية المتطرّفة، بعد أن عانى طويلاً من فساد واستبداد صاحب مرحلة ما بعد الاستقلال، التى أخفقت فى تحقيق التكامل الوطنى والانصهار الاجتماعى الطوعى عبر الديمقراطية والتنمية والعدل الاجتماعى وحقوق المواطنة، وتركت الدول هشة فى مواجهة أى تقلبات تهز أركانها الاجتماعية على أساس طائفى أو عرقى أو جهوى أو طبقى أو أيديولوجى.
وبمرور السنين تغيرت موازين القوى، وتراجعت قدرات العرب، الذين كان يقال إنهم القوة السادسة فى العالم عسكرياً قبل خمسة عقود فقط، لتصبح إمكاناتهم مجتمعة فى التسليح أقل من إسرائيل، وفى الاقتصاد أضعف من إسبانيا، وفى عالم الترجمة والنشر أدنى من دولة أوروبية صغيرة فقيرة هى اليونان، أى أنهم فقدوا، إلى حين، القدرة على أن يجعلوا من أنفسهم رقماً ذا بال فى المعادلة الدولية.
وكان هناك منطقان لإيجاد هذا الرقم الأول هو انتظار مشروع عربى كبير وشامل، طرح تارة فى إطار الوحدة وأخرى فى الاكتفاء بتنسيق السياسات وتعزيز العلاقات فى مختلف المجالات، أما الثانى فكان يحتاج إلى خيال لم يتأت حتى الآن، يدفع فى اتجاه الانتقال من إدارة المعارك الكبرى فى عالم الحرب والمال، إلى الصغير من المعارك، لجنى فوائد سريعة ترمم بعض الشروخ التى مزّقت البنيان العربى على مدار العقدين الأخيرين، وتخلق أفقاً جديداً أمام كتلة بشرية وجغرافية ولسانية ودينية غالبا، صار ينظر إليها، حتى من بين أبنائها بأنها بلا مستقبل.
فبدلاً من انتظار لحظة تاريخية فارقة يستعيد فيها العرب جزءاً من مجدهم الضائع وحضاراتهم العظيمة التى أهدت الدنيا عطايا مادية لا تنسى، ونفحات روحية لا تزال متوهجة، عليهم أن يعملوا بجد واجتهاد فى سبيل تحسين أوضاعهم الراهنة بالقدر الذى يسمح لنظامهم الإقليمى بالبقاء على قيد الحياة، أو على أقل تقدير الحيلولة دون تدهور أوضاعهم إلى الحد الذى يخرجهم تماماً من «زمام التاريخ» أو يؤدى إلى «إعلان وفاتهم»، حسبما قال الشاعر الشهير نزار قبانى ذات يوم بقصيدة بكائية أبدعها فى لحظة يأس جارف، تصور فيها أن الغد سيكون، بالضرورة، أسوأ من اليوم، وأن العروبة تسير، لا محالة، إلى ذهاب أبدى.
إن معطيات التاريخ تُهدى إلينا حكمة عميقة وناصعة عن أمم لم تقعدها الهزائم الكبرى أو النكسات الشاملة والوهن العام الذى تمكن منها حتى النخاع، عن محاولة كسب النزال المحدود والاشتباك المحدد مع وقائع حياتية جانبية، نراها صغيرة، وهى من عظائم الأمور، حتى خرجت من ضيق إخفاقها إلى براح الإنجازات العريضة، التى دفعتها إلى مقدمة الصفوف، بعد أن كانت قبل عقود فى عداد الأمم المغيبة عن التدفّق الرئيسى لحركة العلاقات الدولية.
ولعل ما مرت به الصين والهند، مثلاً لا حصراً، يدلل على هذا الأمر بجلاء لا يشوبه غموض، ووضوح لا يصيبه لبس، ولم يكن بوسع هاتين الدولتين الكبيرتين أن تنطلقا إلى مصاف القوى العظمى فى العالم، لولا أن نخبة الحكم والقوة الفاعلة امتلكتا قدرة هائلة على تخيل أدوار من عدم، ثم الانتقال من هذا الخيال الإيجابى الخصب إلى وضع استراتيجيات للتقدم فى الحياة.
فالصين ما ظن أحد أنها ستفيق من حرب الأفيون، وتسترد وعيها، وتطلق طاقتها فى اتجاه المزاوجة بين ما فى القيم التقليدية الكونفوشيوسية من جوانب أخلاقية إيجابية وما فى ثورتها الحمراء من اتجاه صارم وقوى إلى تهيئة المجتمع لحياة عملية مختلفة، ثم تقرر، بعد الدخول فى جدل عميق حول الملامح النهائية للأيديولوجيا وحدود التفاعل المرن مع العالم، أن تخط لنفسها بثقة طريقاً مستقيماً، جنت منه ثروة طائلة، وحققت لبكين وجوداً اقتصادياً، ومن ثم ثقافياً وسياسياً أحياناً، فى كل مكان على سطح الأرض.
(ونكمل غداً إن شاء الله تعالى)