عمار علي حسن
لا تختلف الحركات والتنظيمات والجماعات الدينية صاحبة المشروع السياسى، سواء كانت تسعى إليه سلمياً مؤقتاً أو بالعنف والإرهاب، فى إيمانها بفكرة «الوطن البديل» الذى يَجُبُ لديها «الدولة الوطنية» بمفهومها العصرى، ويأخذها إلى اتساع وهمى، نحو صيغة «إمبراطورية»، مثلما كان قائماً فى القرون الوسطى، أو يضيقها إلى حد الإقليم أو المنطقة المقتطعة من دولة ما، والتى يمكن لهذا التنظيم أن يقيم عليها إمارته، ويطبق بين سكانها رؤيته، ويتخذه نواة فيما بعد لـ«الجهاد» ضد الآخرين لتوسيعها حتى يصل إلى الشكل القديم المبتغى، وهو «الخلافة» التى لا يعتقد المتطرفون أنها شكل سياسى وإدارى يناسب مرحلة تاريخية معينة ثم مضى، بل يريدون استعادته كما هو، دون نقصان، وإن زاد فلا ضير ولا بأس، وهذا يصل لديهم إلى حد المعتقد أو الفريضة.
ومنذ البداية، آمنت هذه التنظيمات بفكرة «الوطن البديل» تلك، وإن اختلفت فى طرق التعبير عنها، وأساليب الوصول إليها، والتدرج الواجب فى سبيل بلوغها. وقد تطورت وتدرجت الفكرة، أو تجلت وأعيد إنتاجها فى صيغ متعددة على النحو التالى:
1- الهجرة: وتعنى ترك المجتمع وبناء نواة اجتماعية مختلفة، بدعوى أنه «مجتمع جاهلى»، تحكمه سلطة كفرية وقوانين وضعية، ولذا لا يجب على أتباع الجماعة، الذين يتوهمون أنهم العصبة المؤمنة، وغيرهم ليسوا كذلك، أن يمكثوا فيه، ويعايشوا أهله، إنما وجب عليهم أن يرحلوا عنه، ليقيموا هم مجتمعهم الخاص الذى يتماشى مع الأفكار التى يعتقدون فيها.
والمثل الصارخ على هذا هو ما سمت نفسها «جماعة المؤمنين»، وسماها الناس «التكفير والهجرة» التى ظهرت فى مصر خلال سبعينات القرن العشرين، حيث تمكن مؤسسها شكرى مصطفى من إقناع أصحابه بالنزوح إلى حى طرفى فى القاهرة وهو عزبة النخل، الذى كان أيامها بعيداً وجديداً، كى يقيموا دولتهم، وظلوا هناك إلى أن اكتشف أمرهم وقبض عليهم بعد اختطافهم وقتلهم وزير الأوقاف الشيخ الذهبى، وانتهى التنظيم.
2 - العزلة الشعورية: ويطرحها سيد قطب فى صيغة تحمل الكثير من التناقض وعدم العلمية كسائر ما طرح، فيقول: «حين نعتزل الناس، لأننا نحس بأننا أطهر منهم روحاً، أو أطيب منهم قلباً، أو أرحب منهم نفساً، أو أذكى منهم عقلاً، لا نكون قد صنعنا شيئاً كبيراً، لقد اخترنا لأنفسنا أيسر السبل، وأقلها مؤونة! إن العظمة الحقيقية: أن نخالط هؤلاء الناس، مُشْبَعين بروح السماحة، والعطف على ضعفهم ونقصهم وخطئهم، وروح الرغبة الحقيقية فى تطهيرهم وتثقيفهم، ورفعهم إلى مستوانا بقدر ما نستطيع! إنه ليس معنى هذا أن نتخلى عن آفاقنا العليا، ومثلنا السامية، أو أن نتملق هؤلاء الناس، ونثنى على رذائلهم، أو أن نشعرهم بأننا أعلى منهم أفقاً. إن التوفيق بين هذه المتناقضات، وسعة الصدر لما يتطلبه هذا التوفيق من جهد: هو العظمة الحقيقية».
ومع هذا أخذ ذلك المعنى المتناقض تصوراً أشد صرامة فى التطبيق، أو تم الالتزام بأوله من دون آخره، تحت وهم اصطفاء المؤمنين به واختلافهم عن الناس من حيث القرب من الدين أو الامتثال لتعاليمه، وبالتالى عاش أنصار الجماعات والتنظيمات الدينية المسيسة فى دولة متوهمة، أو «وطن بديل افتراضى» يخالطون الناس بأجسادهم، لكن أمانيهم وأهدافهم وأنفسهم تسكن مكاناً آخر، يؤمنون هم به، ويعتقدون أن الآخرين غير قادرين على بلوغه.
3- الاقتطاع: أى نزع جزء من جسد دولة أو من مدينة من المدن، لإقامة «وطن بديل»، أو «مجتمع بديل» عليها، يتم فيه تطبيق أفكار الجماعة المتطرفة، بعد أن تمتلك وسائل للسيطرة والتحكم داخل المجتمع، إما بإقناع عدد كبير من سكانه بالفكرة المتشددة، وتوظيفهم فى السيطرة على الباقين، أو باستغلال التهميش الاجتماعى وغياب سلطة الدولة على حى أو إقليم وملء هذا الفراغ، والسيطرة بالقوة القاهرة على السكان، وإخضاعهم لتصورات الجماعة أو التنظيم، وهناك أمثلة كثيرة فى هذا الشأن، منها ما يخص اقتطاع إقليم من الدولة، مثلما جرى فى مالى والصومال والعراق، ومنها ما يخص السيطرة على حى من أحياء مدينة كبرى، حسبما جرى فى القاهرة فى أوائل تسعينات القرن الماضى حين قامت الجماعة الإسلامية بالسيطرة على حى إمبابة، وأعلنت أنه بات «دولة داخل الدولة» مما دفع السلطة إلى حشد عشرين ألف جندى من قوات الداخلية، لإزالة هذه الدولة المزعومة.
(ونكمل غداً إن شاء الله تعالى)