عمار علي حسن
ليست السياسة سلعة مادية مثل الدراجة أو السيارة، وليست وجبة نتناولها، بل هى خطاب. والكلام أمر مهم فى الحياة اليومية للساسة، فنحن نتعرّف على الأحداث السياسية من خلال الكلمات، التى نتلقاها من التحدّث مع الساسة أو قراءة الصحف أو مشاهدة الأخبار المتلفزة. وإذا كانت الأنظمة السياسية تحاول بكل ما وسعها من جهد أن تكتسب الشرعية، فإن الشرعية تأتى، فى النهاية، من الخطاب، أى من اللغة، وغيرها.
وفى حالة رصد مفردات الخطاب السياسى، نجد أن المجاز أو الاستعارة تقع فى قلبه. فكثيراً ما يحرص الساسة على أن يضمنوا خطابهم، خاصة إذا كان موجهاً إلى الجماهير العريضة، عبارات مُفعمة بالبلاغة والتشبيهات، حتى تتسنى لهم تعبئة شعوبهم، خلف القضايا التى يتبناها النظام الحاكم. كما تبدو اللغة أداة طيّعة، أو سلاحاً، فى يدهم حين يرغبون فى التلاعب بعقول هذه الجماهير وتضليلها. فالواقعة السياسية الواحدة يمكن إعطاؤها معانى مختلفة، عبر اللغة، فعلى سبيل المثال، فإن غزو دولة لدولة أخرى، قد يعتبره خطاباً سياسياً معيناً «انتهاك سيادة دولة مستقلة»، بينما ينظر إليه خطاب آخر، خاصة الذى تُصدّره الدولة الغازية، على أنه «تحرير شعب من سلطة مستبدة».
وحين يتحدّث المسئولون عن النفقات الحكومية، على أنها استثمارات عامة، فإن لغتهم تبدو مفعمة بالألفاظ التى تنم عن الفخر، وعلى العكس يتم تغليف هذه اللغة بالتواضع إذا تم النظر إلى هذه النفقات على أنها ضرائب تدفعها الجماهير. وقد درج الخطاب السياسى العربى على تطويع «اللغة الأدبية» لخدمة مقاصده منذ زمن طويل، ولحظة البداية فى هذا الشأن يرصدها كارل بروكلمان فى موسوعته «تاريخ الأدب العربى»، حين ترك أبوالطيب طاهر بن الحسين، مؤسس الدولة الطاهرية (ت 822 م) وصية لابنه «عبدالله»، عندما عيّنه والياً على ديار ربيعة، حيث استخدم السجع والمرصعات البديعية على نطاق واسع فى هذه الوصية.
وعلى هذا الأساس، نجد أن «السياسى» يتماس مع «الأدبى»، فالأدب، كما سبقت الإشارة، هو استخدام خاص للغة، والنص الأدبى مجموعة من التراكيب اللغوية التى تعلق بعضها ببعض على نحو مخصوص، واللغة تتشكل أحياناً من أجل تحديد رسالة سياسية معينة.
وتعد مركزية «الصراع» فى السياسة والأدب إحدى نقاط الالتقاء بينهما، فالسياسة ترتبط بالصراع دائماً، إذ إنها تظهر حين يوجد التنافس المحموم على الأهداف، وعلى وسائل تحقيقها، سواء فى مؤسسة محلية صغيرة، مثل المدرسة والمنزل، أو على مستوى النظام السياسى، بل على المستوى الدولى أيضاً. وفى المقابل فإن كل عمل روائى هو بالضرورة تجسيد للصراع بين الذات والمجتمع، وبقدر ما يكون أسلوب السرد قادراً على ترجمة هذا الصراع، بقدر ما يقترب العمل الروائى من مرحلة النضج، ويمتلك القدرة على التأثير، حسبما يقول محمد أنقار. ويأتى الفيلسوف الألمانى هيجل فى مقدمة هؤلاء، حيث اعتبر الرواية «مجالاً للصراع بين شعر القلب، ونثر العلاقات الاجتماعية، ومصادفة الظروف الخارجية».
كما أن الحوار السياسى يحمل سردية ظاهرة، إذ إن هناك نوعين من الفكر، حسبما يرى مايكل كاريذرس، الأول قائم على النماذج، ويسمى الطراز القياسى، ويُستخدم فى الفلسفة والمنطق والرياضيات والعلوم الطبيعية، والثانى قائم على السرد، أو القص، ويتعلق بكل فروع المعرفة، ذات الطابع الإنسانى. والتفكير الروائى، أى اتباع السرد فى عرض الأفكار، يتيح لنا التعرّف على الماضى البعيد وتصور ملامح مستقبل أكثر تعقيداً، مثلما يتيح إمكانية إدراك بيئة اجتماعية أكثر تنوعاً.
ويذهب فرانسو ليوتار إلى مدى أبعد من ذلك فى التعامل مع وظيفة القص فى المعرفة الإنسانية، حيث يرى أن كل معرفة، مهما كانت درجة تجريدها وعلميتها، يتم عرضها بصورة سردية أو قصصية، فحتى المعارف العلمية التى يبدو أنها تشير مباشرة إلى أشياء موجودة فى العالم الخارجى، لا بد أن تستعين بالقصة، إذا أريد فهمها.
وينطبق هذا الأمر، فى جوانب عديدة، على علم السياسة، فبعض الأمثلة التى يطرحها الباحثون فى مجال الفكر السياسى وتاريخ العلاقات الدولية والنظم السياسية، تعتمد على السرد. فهم حين يتناولون تاريخ حياة وتطور أفكار مفكر سياسى ما، أو تاريخ الصراع بين مختلف الدول، أو وضع التحالفات الاجتماعية وتحليل النخبة السياسية لنظام ما، أو حين يضربون أمثلة على رحلة تطور تجارب سياسية معينة، يرتدون فى هذه الحالات ثوب الروائيين، لكن بتقنيات سرد تحكمها طبيعة العلم الذى يتناولونه.
(ونكمل غداً إن شاء الله تعالى)