عمار علي حسن
يختلف الخيال السياسى العلمى، الذى يجب أن نمتلكه، عن الوهم السياسى. فالوهم عموماً هو «التصورات والأفكار والخرافات التى يعتقد المرء بصحتها دون أى أساس واقعى ومنطقى وعقلى وعلمى، وبأنها قابلة للتحقق فى الواقع. كما أنه رغبات تأخذ صورة الحقيقة دون التفكير المنطقى- الواقعى بإمكانية تطابقها مع مطلب الحياة وحاجاتها ومع منطق الأشياء والوقائع. فكل ما ليس بممكن الحدوث الآن ولا فى المستقبل هو وهم». ذلك على حد تعريف أحمد برقاوى، وبالتالى تبدو ضرباً من «الوساوس القهرية» و«الهلاوس السمعية والبصرية» أكثر منها نوعاً من التأمل والشرود الخلاق.
والوهم السياسى هو نوع من التفكير خارج حدود الممكن، ولذا فإنه يجعل صاحبه يرى الخطأ صواباً، كما يُريه العدوَّ صديقاً والصديقَ عدواً، ومن هنا فإن أكبر ما تكون أخطاء الوهم شنيعة حين تكون سياسية، حينها تكون نتائجه كارثية ومدمرة.
لكن هناك من يذهب إلى ما هو أبعد من هذا بكثير معتبراً أن العملية السياسية، حتى فى البلدان الديمقراطية، تنطوى فى مضمونها على أوهام، حيث يتحول النشاط السياسى بشكل عام إلى مشهد من الأوهام المتشابكة، وفى مطلعه مسألة المشاركة الشعبية فى الحكومة، والرقابة الشعبية التى يقوم بها المسئولون المنتخبون وغيرهم، نظراً لوجود آليات واقعية تفرّغ هذه العمليات من مضمونها، وتترك المنادين بها أو من يتمسكون بتنفيذها سادرين فى أوهامهم.
لكن الحديث عن الخيال السياسى لا يتساوق مع هذه التصورات المرتبطة بـ«الوهم السياسى»، سواء فى بيئة سياسية مغلقة ومتكلسة ومستبدة ورجعية، تسكن الأوهام المقنعة رؤوس نخبتها الحاكمة، أو حتى لدى الشعوب المنفتحة والديمقراطية التى تلعب آلة الدعاية الرهيبة دوراً كبيراً فى التعمية عليها عبر تسويق الشكل، والضن بالمضمون، لتجعل من عملية سياسية يتمكن الناس فيها من القرار بشكل حقيقى ضرباً من الوهم.
والخيال السياسى ليس نوعاً من التنجيم، حتى ولو نجح المنجمون فى اكتساب العقول والقلوب، نظراً إلى حاجة الإنسان إلى نوع من التفكير فى تاريخ المستقبل، وتحول التنجيم إلى نوع من التسلية، وتطورت مدارسه وتقدمت مع تقدم العلوم والمعرفة، فتحول إلى نوع من العلم من باب السياسة، ونجح فى استخدام التقنيات المعاصرة لتجديد مهنة قديمة اعتُقد سابقاً أنها ستسقط مع تطور الإنسان.
وقد وصل التنجيم السياسى حداً بالغاً فى السنوات الأخيرة، فخاض المنجمون فى شئون السلطات والدول، صغيرة كانت أم كبيرة، ولم يكفهم أن يستعين بهم بعض الرؤساء حتى فى أكبر دول العالم، ولم يشبع نهمهم أن يتحدثوا عن الحاضرين من الزعماء والساسة، بل أراد بعضهم أن يقرأ تاريخ سابقين منجماً، وهنا يقول أحد مؤلفى كتب التنجيم السياسية: «تعددت الكتب التى تناولت حياة السادات، وتعددت طرق الكتابة عنه، ولكننا تناولنا حياة السادات من جانب لم يتناوله أحد من قبل، من جانب مثير للاهتمام وربما الجدل أيضاً. لقد تناولنا شخصية السادات وتركيبها ودراستها من منظور دقيق، بل غاية فى الدقة.. إنه من منظور تنجيمى».
ومع هذا يظل التنجيم السياسى لعبة موظفة بدهاء فى خدمة توجهات غير نزيهة ترمى إلى التأثير الواسع فى الرأى العام، ودفعه إلى الطريق الذى يريده أولئك الذين استخدموا المنجمين، وربما التشويش عليه، فى مجاراة للكثير من التحليلات السياسية المؤدلجة التى تقف وراءها منافع ومصالح فئات وطبقات وسلطات أكثر من كونها عملية مهنية تتوسل بالعلم والأخلاق ولو فى الحدود الدنيا.
وإذا كان الخيال واحداً من حيث طبيعة العمليات التى يقوم بها مخ الإنسان بغية التخيل والإبداع، فإنه يتوزع فى حقول الدراسات الإنسانية ليصير حزمة من الخيالات، لتنقسم إلى خيال اجتماعى وسياسى وثقافى وجغرافى وتاريخى واقتصادى وعلمى وبدنى رياضى وأدبى وتشكيلى وموسيقى وانفعالى وفلسفى وتطبيقى وتجريبى وتجريدى، وغيره، كما يقول شاكر عبدالحميد، وكل هذه الأصناف والأنواع أبعد ما تكون عن التنجيم.