عمار علي حسن
لا توجد أدنى صلة بين المقاوم والمرتزق، فالأول يقاتل من أجل قضية عظيمة، والثانى يشارك فى المعارك من أجل منفعة مادية. والمقاوم يثبت على مبادئه ومواقفه طالما وافقت روح الجماعة التى يعمل معها وتماشت مع القضية التى يؤمن بها، أما المرتزق فيبدّل ولاءه حسب مصلحته التى لا تخرج فى أغلب الأحوال عما سيتقاضاه من أجر نظير حمل السلاح. وإذا سعى المقاوم إلى الحصول على مقابل مالى نظير مرابطته أو نضاله أو نزاله تحول إلى مرتزق، كما أن المرتزق بوسعه أن يكون مقاوماً إن تخلى عن أجره، وعن الجيش النظامى الذى يقاتل فى صفوفه، وانضم إلى أى حركة نضال شعبية، ترفع السلاح فى وجه عدو خارجى أو حاكم جائر.
ويختلف المرتزق عن الجندى النظامى الذى يقاتل دفاعاً عن وطنه، ويعتبر أن أداء الخدمة العسكرية الإلزامية واجب عليه كمواطن، وجزء أساسى من المصلحة القومية التى تعود على الأفراد جميعاً بالنفع، حين يعيشون فى اطمئنان ويمارسون حياتهم اليومية فى أمان لأن القوات المسلحة تحمى الحدود، وترعى الحمى، وتقف فى وجه أى عدو طامع.
ولهذا فإن مختلف تعريفات المقاوم أو المناضل تتفق على إيجابيته وطهر مسلكه، وتحمل قدراً جلياً من تشجيع الناس على أن يحذوا حذوه. أما الارتزاق فيحمل صورة سلبية على الدوام، سواء فى المعاجم اللغوية أو القواميس العلمية المتخصصة، أو عند مختلف المفكرين والمؤرخين والفلاسفة وخبراء الاستراتيجية الحديثة.
فها هو المعجم الوجيز مثلاً يعرّف المرتزقة بشكل عام بأنهم: «أصحاب جرايات ورواتب مقدرة» ويعرّف مرتزقة الحروب بأنهم «الذين يحاربون فى الجيش على سبيل الارتزاق، والغالب أن يكونوا من الغرباء». ويعرّف ميثاق جنيف المرتزق «Mercenary» بأنه فرد تم تجنيده بنزاع مسلح فى دولة غير موطنه الأصلى، هدفه الأساسى هو التربح من اشتراكه فى القتال، ولذا فهو يؤجّر جهده وخبرته القتالية لمن يدفع له، ومن ثم فهو يفتقد إلى المشروعية التى تُمنح للمقاتلين فى الحروب العادلة، سواء كانت نظامية أو بواسطة مقاتلى العصابات والمقاومين.
وينتمى المرتزقة عبر التاريخ إلى المهمشين من البشر سواء كانوا فقراء معدمين أو لقطاء أو محاربين نظاميين مسرّحين من الخدمة العسكرية. وتسيطر على المرتزقة روح الانتهازية والأنانية المفرطة والتعطش الدائم إلى الدم، وهم يفتقدون إلى معانى الفروسية ويفتقرون إلى الالتزام بما توجبه من سلوك أثناء الحرب، كما أنهم عديمو الضمائر، لا يحفلون كثيراً بالشرف والوطنية، ولا يتحلون بالشجاعة، وولاؤهم لمن يدفع أكثر، وهمهم الأساسى هو إرضاء من يؤجّرهم، ولذا فإنهم يميلون بطبعهم إلى الخيانة.
وينصح ابن خلدون الحكام والسلاطين بألا يعتمدوا على المرتزقة فى تثبيت أركان سلطانهم، وأن يوفروا الأموال الطائلة التى ينفقونها عليهم، لأنهم مهما أجزلوا العطاء لهم فإنهم ليس بوسعهم أن يضمنوا ولاءهم، وسيظل ملكهم مهدداً طالما كان يحتمى فى سيوف المرتزقة ورماحهم. وهنا ينتقد ابن خلدون السلطان المستبد الذى ينزلق إلى خصومة مع المحكومين و«يحتاج فى مدافعتهم عن الأمر وصدهم عن المشاركة إلى أولياء آخرين من غير جلدتهم، يستظهر بهم عليهم، ويتولاهم دونهم، فيكونون أقرب إليهم من سائرهم وأخص به قرباً واصطناعاً، وأولى إيثاراً وجاهاً، لما أنهم يستميتون دونه فى مدافعة قومه عن الأمر الذى كان لهم والرتبة التى ألفوها فى مشاركتهم، فيستخلصهم صاحب الدولة حينئذ، ويخصهم بمزيد من التكرمة والإيثار، ويقسم لهم مثل ما للكثير من قومه ويقلدهم جليل الأعمال والولايات من الوزارة والقيادة والجباية، وما يختص به لنفسه، وتكون خاصة له دون قومه من ألقاب المملكة، لأنهم حينئذ أولياؤه الأقربون ونصحاؤه المخلصون، وذلك حينئذ مؤذن باهتضام الدولة وعلامة على المرض المزمن فيها، لفساد العصبية التى كان بناء الغلب عليها، ومرض قلوب أهل الدولة حينئذ من الامتهان وعداوة السلطان، فيضطغنون عليه، ويتربصون به الدوائر، ويعود وبال ذلك على الدولة ولا يطمع فى برئها من هذا الداء، لأن ما مضى يتأكد فى الأعقاب إلى أن يذهب رسمها». ومعنى هذا باختصار شديد أن أى ملك يعتمد على المرتزقة فى حمايته مآله الطبيعى هو الانهيار السريع.
ومن قبل كان الماوردى قد اقترب من هذا الرأى الذى تبناه ابن خلدون، فها هو يقول: «قد يجمع الملك الجنود ليكونوا له عدة على أعدائه، وجُنة عند لقائه، فيكون فيهم هلاكه»، ثم يطالب الحاكم بأن يتفقد ظهور الفجور فى عسكره ويقول: «لقد جرب هذا المعنى فى غير واحد من عساكر الملوك، فوجد الأمر على ما قال، أعنى أن ظهور الفجور كان أمارة لوشك البوار، وقرب الهلاك». ومع أن الماوردى لم يذكر صراحة فى ثنايا رأيه كلمة «مرتزقة» فإن قوله يؤول إلى ما يرتبط بها من أفعال وعلاقات.
(ونكمل غداً إن شاء الله تعالى).