عمار علي حسن
من المستحيل أن نجد شعباً بلا قصص.. هكذا يقول الناقد الفرنسى رولان بارت، لكنه لم يلحظ أنه أيضاً لا يوجد شعب بلا دين. فالدين ضرورة، حيث لا استغناء عن الامتلاء الروحى والسمو الأخلاقى وامتلاك إطار واسع وعميق لتفسير الظواهر الإنسانية والكونية. والفلسفات التى تحدثت عن «موت الإله» لم تلبث أن حولت الإنسان نفسه إلى إله، كما فعل فريدريك نيتشه فى رحلة بحثه عن الفرد الخارق للعادة أو «السوبرمان». والذين استغرقوا فى العلمانية حولوها بقصد أو بغير عمد إلى دين أرضى، ومن لم يهتدوا إلى السماء اتخذوا كائنات خرافية أو أوثاناً وعبدوها من دون الله، حتى أننا نجد فى أفريقيا قبائل تعبد الثعابين والشجر.
لكن الدين فى أى زمان ومكان لم يبقَ عند الغالبية على حاله، بل طرأت عليه تغيرات متفاوتة الدرجة، وأصابه من شرور النفس البشرية وأهوائها الكثير، فتحول إلى صيغ عدة، نظرية وعملية، لكن هذه التحولات لا يمكن ولا يجب أن تعمينا عن الأصل أو التجلى الأول أو الصراط المستقيم، حسب التعبير القرآنى، أو «النص المؤسس» حسب تعبير «أدونيس» فى كتابه الشهير «الثابت والمتحول»، لأنه يظل دوماً يمثل المرجعية والإطار الحاكم، وحائط الصد الأخير، ومكمن إنتاج الحجة والبرهان، والمظلة التى تحتمى بها طائفة ستستمر على الحق، لن يضرها مَن يخالفها إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها.
وقبل أن نتتبع هذه التحولات، علينا أن نعى أمراً مهماً ألا وهو الفروق الواسعة بين الدين والتدين وعلوم الدين من فقه وتفسير وحديث وسيرة. فالأول يتجلى فى النص الإلهى لحظة نزوله وإثباته، والثانى ينتج من تفاعل الناس مع النص عبر تأويله والوقوف على معانيه ومراميه، سواء أدى هذا التفاعل إلى الطاعة والاتباع، أم قاد إلى المعصية والابتداع، أو اجتهد فى تحويل الابتداع إلى إبداع وتفاعل خلاق مع النص بإنتاج أطر نظرية وممارسات تواكب حركة الحياة التى لا تتوقف، عبر إيجاد ما يلزم من فقه الواقع.
وتحت ظلال التدين الذى يجد تفسيراً له أو تبريراً فى علوم الدين، تتحول الأديان إلى خمسة أشكال، أولها أن يصير الدين مجرد أيديولوجية حين يرتبط بظاهرة السلطة لدى الجماعات والتنظيمات السياسية ذات الإسناد الدينى، التى تبدأ بالمؤتلف مع الجماعة الوطنية تماماً والمستظل بأطر وأدوات الدولة الحديثة مثل «الأحزاب السياسية الإسلامية»، وتنتهى بالتنظيمات الموغلة فى الخروج والعداء مثل تنظيم القاعدة.
وأدلجة الدين الإسلامى ليست ظاهرة حديثة بل تعود إلى زمن الفتنة الكبرى، حين دب الخلاف بين المسلمين وراح كل فريق يبحث عن تأويل للنص القرآنى يخدم مصالحه، ثم بدأت مرحلة أخطر تمثلت فى الكذب على الرسول الكريم بوضع أحاديث منسوبة إليه. وكان هذا الانحراف قد أصاب الأديان السماوية الأخرى، فاليهود صبغوا دينهم بصبغة سياسية منذ وعد يهوه إلى وعد بلفور وما بعده، ووصل الأمر إلى ذروته بإقامة دولة على أساس دينى وهى «إسرائيل»، وذلك للمرة الأولى والأخيرة حتى الآن فى تاريخ الإنسانية قاطبة. وجرى الأمر على المسيحية منذ أن احتمت الكنيسة بسيف قسطنطين فى القرن الرابع الميلادى، فظهرت نظرية «الحق الإلهى للملوك»، وتحول رجال الدين إلى سلاطين، ما يظهر فى البيان الذى أصدره البابا أنوسنت الثالث فى سنة 1066 وأعطى نفسه الحق فى إصدار القوانين، وأن يقبّل كل ملوك وأمراء الأرض قدميه، وجعل من نفسه شخصاً مقدساً لا يذنب ولا يأثم، ولا يجوز لأحد أن يحاكمه، وكل فرد يحتمى به لا يمكن الحكم عليه أو ملاحقته.
(ونكمل غداً إن شاء الله تعالى)