عمار علي حسن
كانت حركة الضباط المصريين الأحرار فى يوليو عام 1952 ثورة لكل العرب، إذ فتحت نوافذهم على الاستقلال، وصنعت لهم إطاراً سياسياً لعقدين آخرين من الزمن الزاهر، فتجاوزت بهذا الجدل حول ما إذا كانت «ثورة» أم «انقلاباً» أم «انقلاباً ثورياً»، لكنها حملت فى طموحها المندفع بذور انقضائها السريع.
وللوهلة الأولى لا يستطيع أحد أن ينكر أن الثورة أحدثت تحولات اجتماعية فارقة فى مصر، أعيدت على إثرها صياغة التركيبة الطبقية، وعناصر البيروقراطية، ونشأت فئة من التكنوقراط الجدد، فى ظل اتجاه إلى تعميق التصنيع وزيادة الغلة الزراعية وتنظيمها عبر مشروع السد العالى العملاق، بالتزامن مع بناء ركائز أخرى للقوة، منها العسكرى والعلمى.
وليس بوسع أحد أن يتجاهل أن ضباط يوليو تمكنوا من نيل إعجاب الغالبية الساحقة من الجماهير، فى إقدامهم على تلك الخطوة الشجاعة التى جبنت وقتها قوى أكبر منهم بكثير أن تقوم بها، وفى نبل الشعارات العامة التى رفعوها فى بداية الطريق، وفى تجرد القيادة السياسية ونزاهتها وطهارة يدها ووطنيتها وخيالها السياسى الطموح، الذى أراد مصر مستقلة لا تابعة، حرة لا مستعمرة، صاحبة دور إقليمى وعالمى لا منكفئة على ذاتها فى انعزال ممقوت.
إلا أن هذا «العدل الاجتماعى» النسبى، وذلك الدور الخارجى الكبير تمت مقايضته بالحرية السياسية، أو الديمقراطية، أو «العدل السياسى» بجوار «العدل الاجتماعى»، وهى مسألة ثبت خطؤها التاريخى، وقادت فى خاتمة المطاف إلى إزاحة ما حققته «الثورة» من عدل بقرار فوقى سريع، تم اتخاذه بعد رحيل عبدالناصر بأربع سنوات فحسب، وهو قرار الانفتاح الاقتصادى، الذى بدا الآن «حقاً أريد به باطل»، فأدى بعد سنوات من تطبيقه إلى إلقاء مصر فى فلك التبعية الاقتصادية الكاملة، والتبعية السياسية الجزئية.
وقبل اندلاع ثورة 25 يناير العظيمة بدت الإنجازات الاجتماعية الكبيرة والقومية المخلصة الطموحة لثورة يوليو تذوى ويختنق زخمها الثقافى الفياض مع اتساع رقعة التهميش الطبقى وانحسار الدور الخارجى أو انكساره وصعود فكر الاستهلاك وقيمه المفرطة فى الأنانية وتقديم المعدة على الدماغ والشهوة على الكرامة، وشيوع حالة من الميوعة والترهل والفساد لتصيب المؤسسات بمختلف ألوانها واهتماماتها وتفاوت تواريخ نشأتها وأهميتها وموقعها من عمليات التفاعل الاجتماعى والسياسى والنشاط الاقتصادى والمالى والرؤى الثقافية والتصورات والاعتقادات الدينية، وتصبح هذه المؤسسات، التى تمثل جسم الدولة، فى خاتمة المطاف، لا تعدو عن كونها «تكايا»، لمن يعتلونها من كبار الموظفين، الذين حلوا بأعجوبة محل «الباشوات» القدامى، بل إنهم «سوبر باشاوات»، لأنهم ينهبون الكثير من دون بذل أى جهد، ولا حيازة أى جدارة.
لم يبقَ من ثورة يوليو سوى «ميراث الاستبداد»، الذى دفع المصريون ثمناً غالياً من أجل القضاء عليه من خلال حركتهم الفتية الرامية إلى الإصلاح السياسى، المفعمة بحنين جارف إلى زمن الليبرالية المصرية. ولتحويل طاقة الحنين إلى حقيقة جلية يبذل قادة الإصلاح جهداً فائقاً من أجل علاج الخوف التاريخى الذى بثته أجهزة الأمن والاستخبارات فى الخمسينات والستينات فى قلوب المصريين. وعلى التوازى يبذل المؤرخون ما فى وسعهم فى سبيل إعادة الاعتبار لتاريخ ما قبل الثورة، التى أطلق عليه الضباط اسم «العهد البائد» وألصقوا به تهماً فاضحة، واعتبروه زمناً أسود، ليس فيه إلا الشر والضعف والهوان. وفى الوقت نفسه يحاول الباحثون الثقاة أن يجيبوا على تساؤل مهم مفاده: هل حققت بلادنا نعمة الاستقلال؟
الأفضل أن نطوى صفحة يوليو بحلوها ومرها، ونستعيدها فقط لنحصد العبر، والأهم الآن هو أن نطرح السؤال التالى: هل ثورة يناير الشعبية قامت لتنهى ميراث «يوليو» فى شقه الاستبدادى وتستعيده فى شقه الخاص بالدولة القائدة النازعة إلى التنمية واستقلال القرار الوطنى؟
فى الحقيقة تبدو الإجابة على هذا التساؤل معقدة رغم ما يبدو للمتعجلين من أنها يسيرة. فالطليعة الثورية نزلت لتطالب بدولة «الحرية والكرامة والعدل الاجتماعى» بمعنى أنها إن كانت قد طلبت عدلاً اجتماعياً مثلما ذهب ضباط يوليو فإنها لن تقايض هذا بالحرية أبداً. على الجانب الآخر هناك التيار الدينى الذى نظر إلى الثورة باعتبارها فرصة سانحة لتحقيق مشروعه الأممى الذى انتظره طويلاً، وسعى فى الطريق إلى الانتقام من ميراث «يوليو» الذى خاصمته. وبين الجانبين هناك المؤسسة العسكرية التى نظرت إلى الثورة باعتبارها انتفاضة ضد التوريث أبقت جوهر السلطة فى يد العسكريين ليستمروا فيها.
كل هؤلاء يعيشون فى الماضى، وإن كان «الماضى المستمر» بالمعنى اللغوى، لكن المستقبل هو بالطبع لشباب يؤمن بأن من يضحى بحريته من أجل تأمينه ضد الجوع والخوف لا يستحق أمناً ولا حرية، ويتمسك بإصلاح وتغيير جذرى فى اتجاه الحريات والعدالة الاجتماعية والكرامة، ولن ينفك حتى ينال ما طلب، وما دفع من أجله ثمناً باهظاً.