عمار علي حسن
مع العدوان الإسرائيلى الجديد على الشعب الفلسطينى، المحتلة أرضه والمهضوم حقه، نستعيد ذكرى انتفاضاته العظيمة فى 1936 و1987 (انتفاضة الحجارة) و2000 (انتفاضة الأقصى)، وبينها أشكال كثيرة من المقاومة بالكلمة والحجر والرصاصة، وصولاً إلى الصواريخ.
لكننى طالما أستعيد قصة تلك المرأة التى حكى عنها إميل حبيبى فى روايته الرائعة «سداسية الأيام الستة»، والتى أطلق عليها لقب «أم الروبابيكيا». هذه السيدة لم تنزح مع الذين تركوا دورهم بعد حرب 1948، ومن بينهم زوجها وأولادها، وبقيت مع والدتها القعيدة، وبعد أن كانت فى نظر الجميع «ملكة الوادى المتوجة» أصبحت «أم الروبابيكيا»، لأنها تاجرت فى الأثاث الذى نهبه الإسرائيليون من بيوت الفلسطينيين، فتبرّأ منها زوجها، وراح من يعرفونها يصفونها بأنها «عريقة فى النهب»، ونسى الجميع أنها طالما وقفت إلى جانب المعتقلين فى محنتهم.
وغاب عن البعض أن ما تفعله هذه المرأة يحمل جانباً إيجابياً لا يمكن إنكاره، يتمثل فى الحفاظ على جزء من الذاكرة الشعبية والهوية الفلسطينية، وهو ما يوضحه الراوى حين يقول: احتفظت بذكريات الوطن التى كانت تطلق عليها اسم «النوزى»، وتفسر أم الروبابيكيا نفسها معنى هذا بقولها: «لدىّ خرقات من أنوار الصبا، رسائل الحب الأول، لدى قصائد خبّأها فتيان بين أوراق كتب مدرسية، لدى أساور وأقراط وغويشات.. لدىّ يوميات بخطوط دقيقة حيية وبخطوط عريضة واثقة».
وهذه الأشياء والأوراق يتعدى وجودها وفائدتها مسألة أنها سلع، تُباع وتُشترى، إلى كونها تاريخاً جمعياً، أو نسيجاً متشابكاً من ذكريات لأشخاص عديدين، يرتبطون نفسيا بأشيائهم القديمة، ويعتبرونها جزءاً من هويتهم الوطنية.
كما أستعيد أحداث رواية غسان كنفانى، وهى رواية واقعية، كما يؤكد مؤلفها، تقدم صورة مشرّفة لكفاح المرأة الفلسطينية البسيطة التى تذود عن وطنها بكل نفيس وغالٍ وتلد للأرض رجالاً يقبضون على حقوقهم ويستعدون للموت فى سبيل نيلها. وفى تقديمه لروايته يقول «كنفانى» فى وصف تلك المرأة: «أم سعد امرأة حقيقية، أعرفها جيداً، وما زلت أراها دائماً، وأحادثها، وأتعلم منها، وتربطنى بها قرابة.. لقد علمتنى أم سعد كثيراً وأكاد أقول كل حرف جاء فى هذه السطور التالية إنما هو مقتنص من بين شفتيها، اللتين ظلتا فلسطينيتين رغم كل شىء، ومن كفيها الصلبتين، اللتين ظلتا، رغم كل شىء، تنتظران السلاح عشرين سنة».
وأم سعد امرأة فلسطينية صامدة، تعود إلى بلدتها بعد هزيمة يونيو، لتشجع ابنها على الالتحاق بالفدائيين، ولا يروق لها أن تظل جالسة فى المخيم، تأكل وتشرب، ولا تفعل شيئاً من أجل فلسطين. وهذه الرواية واحدة من ثلاث روايات لـ«كنفانى»، الأولى هى «رجال فى الشمس» والثانية هى «ما تبقى لكم» تشكل مجتمعة موقفه من القضية الفلسطينية، وتكشف عن مكنون حبه للوطن الذى ينتمى إليه، والذى حمل معنى الحب له حتى الموت فى سبيله.
لكن «أم سعد»، إلى جانب ذلك، تنتصر للمرأة الفلسطينية التى تقف إلى جانب الرجل فى كفاح الجميع ضد الاحتلال، وفى حلمهم بانتزاع الوطن المغتصب، وترجمة هذا الحلم إلى واقع حقيقى، من خلال أكثر من طريق للمقاومة، والتمسك بالهوية، والوقوف خلف من يفتدون بلادهم بأرواحهم.
لا تكف نساء فلسطين عن المقاومة بأرحامهن وكلماتهن وسواعدهن، فما بالنا برجالها الذين كان يصفهم القائد التاريخى الكبير ياسر عرفات «شعب الجبارين».