عمار علي حسن
وقد عُرفت قدرة نجيب محفوظ على التذكر، ففاض كثيرون بمدح ذاكرته، التى استطاعت أن تحتفظ بملايين الصور والحوارات والتعليقات، التى عايشها فى انخراطه العارم فى تيارات الحياة المتلاطمة، حيث تنقل بين أماكن عدة، وخالط أصحاب حرف ومهن مختلفة، وزامل وصادق أشتاتاً من البشر، وتماثل مع الناس فى كثير من سلوكياتهم، وكان يتعمد دوماً أن يمعن النظر فى كل ما يدور حوله، ليستخلص فكرة، ويستلهم حكاية، ويتدبر حكمة، ويحفظ معانى ومصطلحات، ويدرك إيماءات وإيحاءات، ويتكهن بما يدور فى طوايا البعض، ونواياهم.
وعلى التوازى مع السياق السياسى الاجتماعى الذى حفلت به أعمال «محفوظ»، ساعدته ذاكرته على أن يضفر الزمان بالمكان، فيرسم ملامح أحياء مصر التى عاش فيها، بدءاً بحى الجمالية فى الحسين الذى ولد فيه، إلى حى العباسية، الذى انتقل إليه مع أسرته فى شبابه، وانتهاء بحى العجوزة الذى انتقل إليه فيما بعد. وبين هذه الأماكن الرئيسية، عرض «محفوظ» العشرات من الأماكن الفرعية أو الثانوية التى مر بها، فى القاهرة حيث أحياؤها القديمة والجديدة. وفى الإسكندرية، التى كان ينتقل للعيش فيها خلال فترة الصيف، والتى مثلت المكان المركزى فى روايتيه «السمان والخريف» 1962 و«ميرامار» 1967، وظهرت بصورة أقل فى رواية «الطريق» 1964، وقصة «دنيا الله» 1962.
ومما ساعد ذاكرة محفوظ على أن تبقى دوماً متوهجة أن الرجل كان يجيد فن الإصغاء، فيجلس إلى الناس، يسمع أكثر مما يتكلم، حتى وصل الأمر به إلى أن استقى مما سرده على مسمعه أحد تلاميذه عن تجربة سجنه رواية كاملة هى «الكرنك» 1974، وعلى غرارها حول الكثير مما سمعه من «حواديت» الطفولة وحكايات الأصدقاء فى المكاتب الوثيرة، وثرثرة العوام على المقاهى، وفى الحوانيت والشوارع إلى قصص عديدة، جعلت أدبه يشكل رافداً مهماً لمعرفة تاريخ مصر الاجتماعى، بقدر ما هو تشكيلات جميلة، تحفل بلغة عامرة بالبيان، ولوحات وصور إنسانية محتشدة بالمعانى.
ولفت هذا الأمر انتباه ناقد ومفكر كبير هو إدوارد سعيد، فكتب فى مقال أثير لها وسمه بـ«نجيب محفوظ وقسوة الذكرى» ما يفيد بأن عالم محفوظ ملىء بالحيوية، ويصخب بالحركة الدائبة، إلى الدرجة التى تجعل رواياته ليس مجرد كلمات متجاورة، بل صور متتابعة، ترسم أمام أعيننا مشاهد حية، بلحمها وشحمها، وكأننا أمام فيلم سينمائى، نستمع فيه إلى صوت كل الأشخاص، وأصوات الذكريات المقبلة من جوف الزمن البعيد.
وحتى فى العالم الموازى والمتخيل الذى شيده محفوظ كاملاً فى بعض أعماله، مثل «قلب الليل» 1975، و«ملحمة الحرافيش» 1977، و«رحلة ابن فطومة» 1983، فإنه استفاد مما حوته ذاكرته عن معالم الأمكنة، وعن ملامح الأفكار الفلسفية التى درسها بكلية الآداب جامعة القاهرة، فى إبداع هذا العالم وصناعة تفاصيله، بما يجعل القارئ يعتقد أن ما تحويه هذه الروايات قد وقع على الأرض بحذافيره، وأن كل ما فعله «محفوظ» هو أنه قد نقل ما جرى، أو أعاد إنتاجه فى قالب قصصى.
ويبدو التذكر شيئاً طبيعياً بالنسبة لأديب يتعامل مع النسيان بوصفه مرضاً عضالاً، لا بد للناس أن يشفوا منه، الأمر الذى تجلى فى نهايات أجزاء روايته المثيرة للجدل «أولاد حارتنا» 1959، حيث أنهى الجزء الأول بجملة:
«لكن آفة حارتنا النسيان».
وأنهى الجزء الثانى بتساؤل يقول:
ـ «لماذا كانت آفة حارتنا النسيان؟».
ثم ختم الجزء الثالث بعبارة:
«وقال كثيرون إنه إذا كانت آفة حارتنا النسيان، فقد آن لها أن تبرأ من هذه الآفة، وإنها ستبرأ منها إلى الأبد».