يرى المؤرخ الكبير «كينيث كراج» أن «مفهوم الحضارة يستعصى على التعقل، ربما لأنه يستعصى على التعريف والتحديد»، وهو مفهوم ينطبق عليه ما يسرى على العلوم الإنسانية من زاوية تعدد استعمال المفاهيم وتأويلها حسب المصلحة أو الفهم أو مقتضى الحال وتنوع استعمالاته وتوظيفه فى تاريخ المعرفة. ولم يستقر هذا المفهوم سوى عام 1752 على يد الباحث الفرنسى «تيرجو» فى ثنايا موسوعته عن تاريخ البشر، لكن مواطنه المفكر المعروف «فولتير» لم يستخدم اللفظ فى كتابه الذى صدر بعد أربع سنوات من تلك الموسوعة والذى وسمه بـ«دراسة سلوك وعادات وتقاليد الأمم» رغم أن مضمونه يدور حول معانيها ومراميها.
وانصبّ إدراك المفهوم فى تلك الآونة على «التحضر» السلوكى، الذى يناقض التوحش والفوضى والهمجية، والذى يصم الأمم كما يصيب الأفراد. ثم انطلق تفسير المفهوم من فرنسا إلى أوروبا بسرعة بالغة، ليمتد إلى حقول أوسع، بمصاحبته لفظ «الثقافة» الذى لم يلبث أن صار صنواً له، حتى إن الفيلسوف الألمانى الكبير «هيجل» استعمل اللفظين بلا تمييز بينهما، وبلا اعتناء بشرح الفوارق بين الاثنين.
وطرح العديد من الكتّاب والباحثين مفهوم الحضارة باعتباره يحمل مسارين مزدوجين، يشملان القيم الروحية والمادية معاً، حتى إن «شارل سبندوبوس» قال فى أحد أحاديثه مازحاً: «الحضارة ليست الروح فحسب، بل هى أيضاً الطرق والموانئ والأرصفة. إنها كل المعرفة والخبرة البشرية المكتسبة»، ثم جاء المؤرخ «كافينياك» ليقول: «الحضارة حد أدنى من العلوم والفنون والنظم والفضائل».
وبدأت تظهر الفوارق بين مفهومى «الحضارة» و«الثقافة»، فتم النظر إلى الأولى على أنها طائفة من معارف فنية تتخذ منهجاً محدداً، وممارسة عملية، تنصرف إلى مجموعة من الوسائل والطرق التى تمكن البشر من التعامل مع الطبيعة. أما الثانية فتعنى المبادئ المعيارية والقيم والمثاليات المرتبطة بالروح والعقل.
وأعاد «صمويل هنتنجتون» دمج المفهومين ليعرّف الحضارة بأنها «الكيان الثقافى الأوسع الذى يضم الجماعات الثقافية مثل القبائل والجماعات العرقية والدينية والأمم، ولذا فالحضارة هى بمثابة القبائل الإنسانية الكبرى».
وعلى اختلافها فإن هناك عدة عناصر تتحدد بها الحضارات، يمكن عرضها باختصار فى النقاط التالية:
1- الجغرافيا: إذ لا بد لكل حضارة مهما صغرت أو كبرت من أن ترتبط بأرض ما، أمدتها بمتطلبات وميزات أتاحتها تلك الرقعة الجغرافية، على المستويين الطبيعى والبشرى، ومنحت بها الناس «المادة الخام» للفعل الحضارى.
2- الناس: فلا توجد حضارة من دون بشر أو مجتمعات تدفعها إلى الأمام، وتطورها، وتقدمها للآخر والتاريخ، والحضارة ليست سوى المرآة التى تنعكس عليها أحداث مجتمعها أو السجل الذى يحفظ على المجتمع ملامحه، بكل اختلافاتها.
3- الثروة: فالحضارات لا بد لها من أن تنجز اقتصادياً وتقنياً، لتحوز القوة بشقيها الصلب والناعم، وتضمن الاستمرار أطول فترة ممكنة من الزمن. وكثير من الحضارات القديمة لم تعش طويلاً لأنها اعتمدت فقط على الطاقة الروحية، ولم تدرك منزلة الصناعة، أو تخلق «المجتمع الصناعى» الذى يستخدم العلم والتقنية على أوسع نطاق ممكن. والعديد من الحضارات أخذ نجمها فى الأفول حين تدهورت حالتها الاقتصادية.
4- الثقافة: حيث إن كل الحضارات تعتمد على تنمية وتعزيز الكل المعقد الذى يشمل المعارف والقيم والمشاعر والسلوك وطرائق الحياة والمعتقدات، والذى يعنى جميعاً «الثقافة». وتتفاوت حظوظ الحضارات فى ميلها إلى العقل أو إلى الروح، فعلى الأول قامت حضارات، وعلى الثانية قامت أخرى.
5- العقلانية: فالقاسم المشترك بين الحضارات الإنسانية جميعاً هو الاحتكام إلى العقل فى قبول ما يقبله الناس، وفى رفض ما يرفضونه. وهذه العقلانية فى وجهة النظر هى التى تراها ماثلة فى كل حضارة مهما اختلف لونها، ولا تراها فى أى جماعة بدائية مهما تعددت بعد ذلك صفاتها. ولا يعنى هذا أن أى حضارة بوسعها الاستغناء عن عالم الشعور بكل ما يفيض به من فنون وآداب وغيرهما، ولكن إن كان عالم الشعور ضرورياً لكل حضارة، فهو لا يكفى بمفرده، والعقل دون سواه هو الجانب الضرورى والكافى معاً لتعريف الحضارة وقياس درجاتها.
6- الخبرة: فالحضارات الإنسانية تتوارث مجدها وإمكانياتها، ويركب بعضها بعضاً فى رقائق متتابعة عبر التاريخ البشرى المديد. كما أن كل حضارة فى حد ذاتها لا تفنى كلية، وإن تخلفت عن الركب، وسلمت الراية لغيرها، بل يبقى هناك أثر موجود ينقله جيل إلى جيل. فلا يزال لدى المصريين المعاصرين نصيب من الحضارة الفرعونية، والأمر نفسه ينطبق على أحفاد الآشوريين والبابليين والصينيين والهنود. ويظهر هذا الوضع بجلاء إن أمعنا النظر فى الحضارة العربية الإسلامية، التى أفل نجمها، لكن لا يزال العرب والمسلمون يقتاتون على عطائها الروحى والقيمى الذى لم ولن يفنى.