عمار علي حسن
رغم غزارة إنتاجه فى الرواية والقصة القصيرة وكتب الرحلات والسير والحوارات والمقالات فإن رواية الأستاذ يوسف القعيد الأخيرة «مجهول» استغرقت كتابتها زمناً طويلاً، وصل إلى عشر سنوات تقريباً، ما يثير تساؤلات عن سبب هذا التمهل، هل هو التعثر كما يحدث أحياناً حتى لكبار الأدباء حين يعمدون إلى عدم تكرار عوالمهم أو دفع إبداعهم فى خط بيانى متصاعد حتى تكون الرواية اللاحقة أقوى دوماً من السابقة؟ أم هو التأنى؟ أم هى الرغبة فى صناعة عمل مختلف عما عداه يقف على ذروة روايات وقصص له حققت ذيوعاً، خاصة بعد تحول بعضها إلى أعمال سينمائية ودراما تليفزيونية؟
ظنى أن الاحتمال الأول ليس قائماً لأن عالم «مجهول» فى طقوسه وصوره وشخوصه ورموزه هو الأثير لدى كاتبها، والذى قطع فيه شوطاً بالغاً، وهو عالم «القرية المصرية» الذى أبدع فيه وعنه أدباء بارزون مثل يوسف إدريس وعبدالرحمن الشرقاوى وعبدالحكيم قاسم وخيرى شلبى ومحمد البساطى ويوسف أبورية وآخرين، وليست هناك مشكلة أن يحفر أديب فى بيئة اجتماعية ونفسية محددة ويلتقط منها أعماله، طالما كان ينوع فى موضوعه وشخصياته، والمثل الجلى الذى يُضرب دوماً فى هذا المضمار هو حارة نجيب محفوظ التى أهدته روايات وقصصاً عديدة.
أعتقد أن القعيد تأنّى فى صناعة هذا النص، فكتبه ونقّحه وأعاد صياغته حتى ظهر على هيئته تلك، بعد أن وضع فيه كل خبرته فى السرد والوصف وترتيب الحوار والوقوف فى منتصف المسافة بين الشفاهى والكتابى وخلق حبكة مغايرة ومحاولة جذب القارئ من السطور الأولى، والنفخ فى أوصال الواقع بدفقات من الغرابة والتصوف والشجن.
وزّع القعيد روايته على ستة أقسام هى: «كفر المرحوم، حقل المستخبى، نصف بيت، كفر الغيب، الجبل، المعبد». وداخل هذه التقسيمات الرئيسة هناك عناوين فرعية عديدة بعضها يشكل مفتاحاً للجزء الذى يعتليه أو تلخيصاً له أو نقطة جذب، لكن هذه الأقسام وتلك الأجزاء يربط بينها خيط سردى متين ينطلق من البداية إلى النهاية فى بنية شبه دائرية وعبر لغة محكية تختزل المسافات بين العالم الموصوف والمرصود وبين القارئ.
والقارئ الذى يطالع الرواية، إن كان ذا خلفية ثقافية ريفية، سينتبه على الفور إلى تقارب بل تطابق الطقوس الشعبية والتجارب والمعارف والقيم والاتجاهات المصرية فى جوانب عديدة بين صعيد مصر ودلتاها، لا سيما أن البيئة التى ينهل منها القعيد تتلاقى مع البيئة الصعيدية لأسباب اقتصادية واجتماعية وتاريخية، فى ظل هجرات أهل الصعيد إلى البحيرة على مدار القرون الأخيرة، ولذا سيشعر مثل هذا القارئ بألفة شديدة مع النص. أما إن كان القارئ ينحدر من خلفية ثقافية مغايرة سيطالع النص على أن به غرابة، وقد تغنيه التفاصيل التى احتفى بها الكاتب عن الحيرة وكثرة الاستفهامات والتساؤلات، وعليه أن يمعن النظر فى الكثير من التراكيب العامية المفصحة أو الفصيحة المعماة، والتى تنحدر من أمثال شعبية أو تعبيرات دارجة على ألسنة الناس توارثوها أو أبدعوها وفق مقتضى الظرف والحال، وقد التقطها القعيد من بيئته المحلية، وقطعاً هى مستقرة فى ذاكرته ووعيه، وأعاد زرعها فى ثنايا روايته، لتؤدى وظيفة مزدوجة هى رسم ملامح عالم القرية بلغتة وطريقة عيشه وفهمه ورؤيته للحياة وتصاريفها، وإظهار شخصية السارد، أو الراوى العليم هنا، بل وشخصيات الرواية أنفسهم باعتبارهم ترجمة أمينة وصادقة لمعطيات البيئة ومفرداتها.
(ونكمل غداً إن شاء الله تعالى).