رواية عن «دولة المخبرين» 22
أخر الأخبار

رواية عن «دولة المخبرين» (2-2)

رواية عن «دولة المخبرين» (2-2)

 لبنان اليوم -

رواية عن «دولة المخبرين» 22

بقلم : عمار علي حسن

ويعيش بطل رواية «البصاص» للكاتب مصطفى عبيد، صراعاً نفسياً محتدماً، فهو يؤكد فى الليل لصديقه أن كل الشخصيات التاريخية التى تُضرب بها الأمثال فى الشجاعة والعدل والحكمة مثل صلاح الدين الأيوبى وأبوجعفر المنصور ومحمد على باشا لم تكن فى حقيقتها بهذه النصاعة، بل كانت لهم مساوئ ومثالب لا تحصى، تجعل ما يشاع عنهم الآن من إيجابيات محض أساطير. أما فى النهار فيتعاون مع أمثالهم من المعاصرين، فيكتب التقارير الأمنية فى زملائه وتلاميذه، لاسيما ممن ينتمون إلى التيار الدينى السياسى، وكذلك صديق عمره الشيوعى، بل إنه يبلغ عن حبيبته، الصحفية، حين فكرت فى أن توثق شهادات التعذيب فى السجون وأقسام الشرطة، ثم يوشى بأستاذه، الذى يشرف على أطروحته، وهو رجل نزيه مخلص لوطنه، فيعرضه لضغوط شديدة، تصيبه بجلطة، تفقده الحركة والنطق، فتنقطع بذا صلته بتلاميذه.

و«كرم» هنا قد سار على خطى والده، الذى كان بصاصاً قديماً، سلم وثيقة العسس الأصلية إلى جهاز أمن الدولة مقابل تعيين ابنه معيداً بقسم التاريخ فى كلية الآداب. وكأن الكاتب أراد أن يقول لنا إن مهنة العسس تنتقل من جيل إلى جيل، محافظة على آلياتها، ووظائفها.

ورغم أن البطل يعمل بصاصاً فإنه يمضى خائفاً من البصاصين، ظاناً أن كل الناس مثله، وتقبض هذه الهواجس على نفسه، وتطارده كظله، فتتحول الرواية إلى كابوس طويل، وفصول متتالية من التعاسة، تصم الجميع، الأبطال على اختلاف أدوارهم، والراوى المتأرجح بين الماضى والحاضر، لنجد أنفسنا أمام عمل كفكاوى إلى حد ما، لا يقف عند حد اكتئاب فرد، مهما بلغت درجة وعيه وقدرته على التحايل والإفلات من المآزق، إنما كآبة مجتمع بأسره، يعيش فى خوف وتفسخ وفساد وصراع على الفتات، حتى فى أشد مؤسساته تحديثاً، وهى الجامعة.

ولعل العبارة التى جاءت على لسان أحد أبطال الرواية تلخص هذه الحالة بقسوة، إذ يتوجه إلى الناس ويدينهم فيقول بطريقة خطابية ظاهرة: «العلم خارج اهتمامكم أيها الشكاءون بلا نهاية. يا شعوباً من كلام لِمَ تستخفون بجلسات البحث العلمى وتحتشدون أمام مباريات الكُرة وحفلات الرقص الشرقى؟ يا أناساً من ضجيج لِمَ تتجاهلون عواصف التفكير وتنشغلون بالسواك والجلابيب القصيرة وعذاب القبر وعلامات الساعة؟ يا بشراً ينام نصف العُمر وينافق أبد الدهر لِمَ تتغيبون عن حفل ميلاد قامة فكرية فى سماء بلادكم؟».

ولدى الكاتب قدرة ظاهرة على صناعة التشويق، لم ينل منه عمق الطرح، ولا الانتقال من زمن إلى زمن، ومن أسلوب إلى آخر، ولا تشابك خيوط الأحداث. ويجرى كل هذا بلغة فياضة ومحكمة فى آن، إذ لا نجد ترهلاً، إنما ذهاب إلى المعنى من أقرب طريق.

ورغم أن الرواية تتوسل بالتاريخ، وتعود إليه لتنهل منه طيلة الوقت متكئة على مراجع ومصادر فى مطلعها كتاب «عجائب الآثار فى التراجم والأخبار لعبدالرحمن الجبرتى»، فإنها تغرف أيضاً من الواقع المعيش، فأجواء التلصص والتتبع لا تخطئها عين، وكتبة التقارير عن بعضهم البعض -أو حتى عن أنفسهم- يتكاثرون كالأميبا، وطغيان الأمن على الحرية صار خطاباً سائداً منذ عقود، لاسيما مع العودة الدائمة إلى نظرية المؤامرة المسكون بها كتابات تاريخية عربية عدة.

ومع أن السياق السياسى حاضر بشدة فإن الكاتب تمكن إلى حد بعيد من أن ينأى بنصه عن المباشرة أو الوقوع فى فخ الانحياز الأيديولوجى الفاضح والواضح، حتى إنه لا يأخذ موقف الإدانة لـ«البصاص» بقدر ما يعريه أمامنا، فنرى سوءاته كلها، وندرك فداحة ما ينالنا منه، دون أن نفقد الأمل فى إمكانية استعادته إلى السوية، لنربح «المجتمع السليم» حسب تعبير عالم النفس الأمريكى إريك فروم، أو حتى الذى نطيق أن نعيش فيه.

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

رواية عن «دولة المخبرين» 22 رواية عن «دولة المخبرين» 22



GMT 09:11 2022 السبت ,02 تموز / يوليو

«باريس» فى الأدب العربى الحديث

GMT 00:05 2018 الجمعة ,22 حزيران / يونيو

آفة أن يُحارَب الفساد باليسار ويُعان باليمين

GMT 06:32 2018 الجمعة ,11 أيار / مايو

الكتابة تحت حد السيف

GMT 05:12 2017 الجمعة ,15 أيلول / سبتمبر

سيادة «القومندان» عارف أبوالعُرِّيف

GMT 13:33 2017 الجمعة ,08 أيلول / سبتمبر

التعليم والتطرف والإرهاب العرض والمرض والعلاج

إطلالات عملية ومريحة للنجمات في مهرجان الجونة أبرزها ليسرا وهند صبري

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 15:39 2024 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

البدلة النسائية الخيار الأمثل لإبراز شخصيتك وأناقتك
 لبنان اليوم - البدلة النسائية الخيار الأمثل لإبراز شخصيتك وأناقتك

GMT 19:31 2024 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

نصائح للعناية بنظافة المنزل لتدوم لأطول فترة ممكنة
 لبنان اليوم - نصائح للعناية بنظافة المنزل لتدوم لأطول فترة ممكنة

GMT 09:03 2024 الخميس ,10 تشرين الأول / أكتوبر

أسعار السيارات الكهربائية في طريقها لتراجع كبير

GMT 08:47 2024 الإثنين ,08 كانون الثاني / يناير

قائمة المنتخبات العربية الأكثر حصاداً للقب أمم أفريقيا

GMT 07:03 2022 الخميس ,21 تموز / يوليو

أشهر 5 مواقع للتزلج في أميركا الشمالية

GMT 18:54 2021 الخميس ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

رحمة رياض تعود إلى الشعر "الكيرلي" لتغير شكلها

GMT 04:56 2022 الثلاثاء ,05 تموز / يوليو

نصائح للاستمتاع بالجلسات الخارجية للمنزل

GMT 10:04 2022 الإثنين ,18 إبريل / نيسان

النظارات الشمسية الملونة موضة هذا الموسم

GMT 13:24 2023 الإثنين ,03 إبريل / نيسان

أفضل عطور الزهور لإطلالة أنثوية

GMT 22:52 2020 الثلاثاء ,28 تموز / يوليو

"فولكسفاغن" تبحث عن "جاسوس" داخل الشركة
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon