عمار علي حسن
يحمل الدين الإسلامى الكثير من المضامين المرتبطة بروافده الثلاثة، وهى العقيدة والعبادات والمعاملات. وتلك المضامين، التى تتوزع على عشرات الفروع، تظهر فى تبلورها العام، المستند إلى النص والممارسة معاً، أن هناك سمات معينة يتميز بها التصوّر الإسلامى، تتمثل أساساً فى أن الإسلام دين واقعى يتجه إلى المثال، ويوازن بين الضروريات والحاجيات والتحسينات، وينادى بضرورة الانتقال من الظنى إلى القطعى فى المعرفة والواقع المعيش، ويزاوج بين الصواب والإخلاص، وينزع إلى الكونية، بوصفه رسالة إلى كل العالمين. لكن هذا التصوّر تراجع فى واقع المسلمين الراهن، وبذلك خسروا كثيراً نهجاً وسطياً يعينهم على فهم الحياة الإنسانية، ويجعلهم قادرين على وزن ما يعرض من أفكار بميزان دقيق، دون تحجّر يُفضى إلى التخلف أو تفلت ينتهى إلى الفوضى.
وهذه العناصر فى حاجة إلى شرح وتفصيل، وجميعها يستحق هذا، لكننى سأركز هنا على قضية «الصواب» و«الإخلاص»، لأنها الأكثر إلحاحاً فى واقعنا المعيش، نظراً إلى ارتباطها بالمشروع السياسى للحركات الدينية، الذى أخذها إلى العنف والإرهاب، التى تتوهّم أن إخلاصها لفكرتها كفيل بأن يعفيها من أن تُجهد نفسها فى البحث عن طريق صائب تسلكه فى سبيل تطبيق هذه الفكرة، المرتبطة أساساً بغاية محدّدة هى حيازة السلطة والثروة.
فالصواب، وفق نهج الإسلام وتعاليمه، يعنى السير فى اتجاه الحقيقة، وعمل ما ينفع، والإخلاص يعنى أن تتعدى الغاية من هذا العمل حدود تحصيل عوائد دنيوية إلى ابتغاء مرضاة الله. وقيام الإخلاص بفك الارتباط بين المنفعة الدنيوية الضيّقة والصواب، يساعد من يتلمّسون طريق الصواب، على أن يسيروا فيه دون كلل أو ملل، فلا تُحبطهم عوائد قليلة، ولا توقف سيرهم عقبات بفعل صراع المصالح بين البشر، فى تكالبهم المرير على متع زائلة. ومن ثم فإن العلم فى بحثه عن الحقيقة، والإبداع فى تلمسه للجمال، يجب ألا يفتقدا الروحانية والخيرية التى يوفرها الدين والسمو الأخلاقى، إذ إن هذا الافتقاد من شأنه أن يوجّه دفة العلم إلى جلب الشرور، وينزلق بالإبداع إلى تخريب الذوق الإنسانى.
وقد ضرب القرآن الكريم مثلاً مهماً فى هذا الشأن، ليس من خلال تصويبه آراء وتوجهات المسلمين فى مواقف محدّدة تعرّضوا لها فى بداية الدعوة فحسب، بل أيضاً حين زاوج بين الإخلاص والصواب، مقدماً الأول على الثانى، حتى يوفر له عمقاً عقدياً يحميه من الانزلاق. ففى بداية الدعوة فى مكة، قدّم القرآن الجانب العقدى والأخلاقى للإسلام، فلما آمن به أناس وصدقوا، جاءت سور القرآن التى نزلت بالمدينة لتعلمهم كيف يحققون مجتمعاً فاضلاً، أى يقوم على علاقات صائبة ومقاصد نبيلة. وهنا يرى كثيرون أنه ما من مرة تزاوج فيها الإخلاص والصواب إلا وكانت المنفعة والقوة والانتصار والتقدم، وعلى العكس، حين يغيب هذان العنصران، أو أحدهما، فإن الجهود تذهب سُدى، بل قد ينحرف بعض من يخلصون لأفكارهم إلى القتل والتخريب، وهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً.
وتقدير ما إذا كان منتج فكرى معين، أو مسلك وتصرف محدّد، يتوخى الإخلاص من عدمه، يجب ألا يترك للبشر، فهذا أمر بين الإنسان وربه. والقاعدة التى من الضرورى اتباعها فى هذا الشأن أن ما ينفع الناس روحياً وعقلياً ومادياً هو أمر محمود دون شك، ولا يخالف الدين فى شىء، فكما سبق القول فإن الأديان شُرعت لمصلحة الناس ولم يخلق الناس للدين. وإغفال هذه القاعدة، أو ادعاء البعض حقاً فى الوصاية على الدين، وامتلاكهم وحدهم القدرة على التمييز بين ما يخالف الشرع وما يوافقه، هو السبب وراء ما تتعرّض له الأفكار من رفض، وما يلاقيه أصحابها من مقاومة، لأنهم يعتقدون فى أن إخلاصهم لفكرتهم وغايتهم يعفيهم من أن يبحثوا عن الصواب.