فى بلادنا يجب ألا نقف فقط عند حد تحليل مجموعات المصالح فى أجهزة الدولة التى تتعامل على أنها فوق المحاسبة والمساءلة، وبمرور الوقت أصبح لها أنياب ومخالب تخمش بضراوة كل من يريد الاقتراب منها ليحاسبها ويعاقبها إن أخطأت، لكن هذا التحليل يجب أن يتعمّق ليكشف ويفضح «الزبائنية السياسية» أو التحالفات المتينة التى تكونت على مدار نصف القرن أو يزيد، وأصبحت تقاوم عملية التغيير.
وقد قابل كثيرون خطوات التحرّر الاقتصادى التى بدأتها مصر بتفاؤل شديد، على أن هذا النهج من شأنه أن يعبد الطريق أمام قيام حكم ديمقراطى. ويقوم هذا التصوّر على أن الاقتصاد المخطط يضع جميع الموارد تحت تصرّف الحكومة، وبذلك يشكل دعوة مفتوحة لها بأن تكون مطلقة اليد فى استخدام جميع هذه الموارد لتقوية سلطتها، أو تسلطها على وجه الدقة، وضمان استمرار هذه السلطة، والمصادرة على قيام تعددية سياسية حقيقية.
وهنا يُفسّر البعض شيوع الاستبداد بأنه ناجم عن استغلال الدولة للموارد الاقتصادية العامة فى خدمة أهدافها الخاصة، إلى جانب احتكار أدوات التثقيف الاجتماعى من أجل تهميش المعارضة السياسية، وإحكام القبضة على المجتمع، فالنخب الحاكمة والتحالفات الاجتماعية المتضامنة معها «الزبائنية» تجد مصلحتها فى معارضة التوجّه الديمقراطى، طالما أن مؤسسات الحكم لا تنفصل عن الآليات التى يتم توزيع العوائد المالية عن طريقها، بحيث يُثاب من يجارى الوضع القائم أو يخدمه، ويعاقَب من يناهضه، فى عملية فساد مالى وإدارى وسياسى واجتماعى منظّم.
لكن الدولة تحرص فى الوقت ذاته على إضفاء مسحة من الديمقراطية على نظامها، لأنها تدرك أن «القمع الدائم» لن يأتى إلا بنتائج عكسية، وتحتاج إلى ما تخفّف به من غلواء الانتقادات التى توجّهها إليها الدول الديمقراطية، وإلى ما تقنع به رأس المال الهارب، لكى يعود إلى وطنه أو تجلب به الاستثمار الأجنبى، وتستقطب بعض أعضاء النخبة الداخلية، من خلال نحت أدوار مزعومة لهم برئاسة أحزاب سياسية أو مؤسسات، أو حتى الاكتفاء بغض الطرف عن آرائهم وانتقاداتهم، طالما أنها لا تتعدى الخط الأحمر الشفاهى الذى رسمته الحكومة. وبذلك يستطيع نظام حكم من هذا القبيل أن يجمع بين التحرُّر الاقتصادى والتسلط السياسى. فالعصبيات الحديثة أو «الزبائنية» تقف حائلاً دون أن يؤدى الانفتاح الاقتصادى وبرامج الخصخصة إلى تطور سياسى ديمقراطى.
وهناك ثلاثة أنواع من هذه العصبيات، حسبما يصنّفها «أوليفيه روا»، الأولى هى الشبكة التى تتشكل حول شخص بيده سلطات ما، والتى تتقطع خيوطها حين تنقضى سلطته، ونجد مثالاً لها بمجموعة المنتفعين التى تلتصق بأصحاب المناصب، والثانية تتمثّل فى العصبيات التقليدية التى لها وجود سابق على الدولة، مثل القبائل والعشائر والعائلات والأسر الممتدة.. إلخ، والتى من الممكن أن تلعب أدواراً سياسية أو حتى تدير دفة الحكم، حسب النمط الخلدونى فى العصبية، أما الثالثة فهى المجموعات المتضامنة الحديثة، التى ليس لها وجود سابق على الدولة، والتى توجدها المنافع والحماية المتبادَلة للمحسوبيات وزواج الأقارب والشلل الحاكمة، التى تدير الدولة، لمصلحتها وحدها، بطريقة تشبه النموذج المملوكى أو تحاكيه.
وبالطبع فإن «العصبيات الحديثة» تختلف عن التحالفات الاجتماعية التى تتبع منطق المساومة، وتنشأ إثر ترابط المصالح أو توافق الأيديولوجيات والميول السياسية، التى تعد إحدى سمات الديمقراطية. وهذه التحالفات تعنى اتفاق مجموعة من الأفراد على مواصلة السعى إلى تحقيق أهداف مشتركة، واستخدام المصادر المتاحة لديهم من أجل بلوغ هذه الأهداف، ووجود ترابط بينهم خلال الإجراءات الرامية إلى تنفيذ ما يحقّق تلك الأهداف، ثم الاتفاق على توزيع ما ينجم عن هذه الإجراءات من عوائد. وتظهر مثل هذه التحالفات أثناء عملية تشكيل الحكومة، التى تكون مهمتها تنفيذ البرنامج الانتخابى للمرشحين الفائزين. ولهذا النوع من التحالفات عيوبه التى لا يمكن غض الطرف عنها، والتى تسعى الديمقراطيات الحديثة إلى التخلص من بعضها، لكن هذه العيوب أقل سوءاً، بالنسبة للديمقراطية، من تلك التى تترتب على ممارسات العصبيات الحديثة، التى تسد المنافذ أمام قيام نظام حكم ديمقراطى.
فهذه الأنواع من العصبيات تمنع ترجمة التحرُّر الاقتصادى إلى انفتاح سياسى، لأنها تقضى على مبدأ الفرص السياسية المتكافئة، القائم على انتشار واسع النطاق أو متعدّد للثروة الاقتصادية، وفى الوقت ذاته تستخدم أدوات الإكراه المادى والمعنوى على نطاق واسع، فى سبيل قهر الجماعات التى من الممكن أن تنافسها على السلطة، أو حركة الجماهير المطالبة بالتغيير الديمقراطى.
كما أن القائمين على التحرُّر الاقتصادى، فى ظل هذه العصبيات، لا ينتجون تنمية، فهم «تخصيصيون غير تنمويين»، إذا صح التعبير، همهم الأساسى هو جمع الثروات، وهذا يتطلب البحث عن المشروعات التى تحقق ربحاً سريعاً، وهنا تطل ملامح المجتمع الاستهلاكى برأسها. وقد يعتقد البعض أن البدء بمشروعات استهلاكية قد ينتهى بتنمية، حال اتباع خط مستقيم فى تعميق التصنيع. لكن هؤلاء التخصيصيين لا يعمّقون صناعة، إذ إنهم يتحوّلون قبل بلوغ هذه المرحلة الصناعية بكثير، إلى مستوردين كبار للآلات والمعدات التى يدشّنون بها مصانعهم، أو يصبحون وكلاء تجاريين لشركات كبرى، تجعل منهم موزعين أكثر من كونهم منتجين حقيقيين. وعدم إنتاج التخصيصية للتنمية يعنى تضاؤل فرص التحوّل الديمقراطى، من منطلق الدور الذى تلعبه التنمية فى هذا الشأن، والذى سبق تناوله.
وهناك أكثر من نموذج يوضّح الصور التى تتخذها هذه العصبيات الحديثة أو التحالفات الاجتماعية المشبوهة، يمكن ذكرها على النحو التالى:
1 - تحالف البيروقراطية والعسكريين والرأسماليين الجدد: فى ظل هذا الوضع تولد طبقة من المستثمرين الصناعيين أو التجار الكبار يمالئون السلطة، مقابل أن تتولى حمايتهم وسن القوانين واتخاذ الإجراءات التى تحقق المنافع المتبادلة للطرفين. ويأخذ هذا التحالف على عاتقه القيام بتحرُّر اقتصادى تدريجى لا يؤدى إلى هزة اجتماعية ولا يفقد الدولة أدواتها التقليدية فى السيطرة على الأوضاع.
2 - التسلط المركزى: وفى هذه الحالة نكون بصدد نظام حاكم يحتكر الثروة تماماً، ويوزّعها كيفما يشاء، بما يجلب له الخنوع التام من المواطنين، الذين يتحوّلون إلى مجرد رعايا. وإذا ما أقدم هذا النظام على تحرّر اقتصادى، فإن ذلك يكون فى دائرة ضيقة من المنتفعين الموالين للسلطة تماماً أو من بين رجالها، بحيث يستفيد البعض مالياً من التحرُّر الاقتصادى، الذى يكون تدريجياً بالطبع، دون تخفيف قبضة الحكم، لأن خطوة من هذا القبيل قد تقلل حجم هذه الاستفادة أو تجهز عليها.
3 - الثالوث القابض: وهنا تصبح السلطة السياسية بيد تحالف ثلاثى هى المؤسسة العسكرية والحزب الحاكم وبيروقراطية الدولة. وتكون هذه الفئات هى المستفيدة من التحرر الاقتصادى دون أن تسمح بأن يتفاعل اجتماعياً، بما يُزيح التسلط، ولو بقدر قليل. وحين يظهر أى تيار يُهدد هذا الثالوث يكون مصيره القمع الشديد والإقصاء.
4 - وكلاء العولمة الاقتصادية: يكمن هذا النموذج فى وجود وكلاء تجاريين محليين للشركات الدولية عابرة القوميات والشركات الأجنبية الأخرى ووكلاء للاستيراد، يدافعون عن الانفتاح الاقتصادى، ويجذبون إليهم تباعاً عناصر من النخبة السياسية، بحيث تتحول هى الأخرى إلى الوكالة. ويستخدم الجميع القانون والجيش والشرطة فى حماية تحالفهم وعلاقاتهم، دون أن يقدموا على فتح المجال أمام الديمقراطية. وإذا كان هناك تصور بأن فتح الأسواق وزيادة معدلات التمويل والنشاط المستمر لحركة التجارة سيفكك بعض المسائل الخاصة بتسلطية الدولة، بما يمهد الطريق إلى الديمقراطية، فإن «الوكلاء التجاريين» باستطاعتهم أن يفرغوا هذا التصوّر من مضمونه، بحيث يحافظون على ليبرالية اقتصادية دون ليبرالية سياسية، لأن الاثنين فى النهاية يتضافران داخل دائرة اجتماعية ضيقة للغاية.
وهذه العصبيات الحديثة تحتاج إلى «جهاز إعلامى» يروّج لتوجهاتها، ويبرر سلوكها ويشكل همزة وصل بينها وبين «العقل الجمعى»، بما يضمن إما تزييف وعيه وإما قهره. وهذه التحالفات، على مختلف أنماطها، يمكنها أن تنتج العديد من المفارقات، منها تلك التى تخص العلاقة بين التحرر الاقتصادى والديمقراطية، بحيث لا يبدو التحرر الاقتصادى فى حد ذاته كافياً للأخذ بيد المجتمعات التسلطية إلى نظم حكم ديمقراطية، إذ إن العدالة بمختلف أوجهها، القانونية والاجتماعية والسياسية، تغيب لصالح فئات بعينها، وحين تعطل العدالة أو تموت نكون بصدد مجتمع يستمرئ التسلط أو لا يستطيع الفكاك منه إلا بمعجزة.
فهذا التحرُّر لا يعنى بالضرورة تكافؤ الفرص الاقتصادية للجميع، بل على العكس من ذلك، كثيراً ما يؤدى، عبر قنوات الفساد، إلى احتكار المنافذ والقدرات الاقتصادية، مما يعنى التحكم فى أدوات وأشكال الممارسة السياسية. وحتى ينعكس تكافؤ الفرص الاقتصادية على الأداء السياسى، بحيث ينتج سياسات ديمقراطية، فلا بد من عدم احتكار أدوات القهر والإكراه وحياد الجهات المنوط بها ممارسة الضبط الاجتماعى أو تلك القادرة على إجبار أى طرف سياسى على الإذعان، مثل المؤسسة العسكرية، بحيث لا تكون تحت إمرة فئة بعينها، لأنها فى هذه الحالة تحول دون ترجمة التنوّع الاقتصادى إلى تعدُّد سياسى، طلبته ثورة يناير، ويدفع الجيل الجديد فى سبيل تحقيقه.