حسرة
مشت الحسناء تتبختر فى شارع السوق فانجذبت إليها عيون الباعة والزبائن. وقفوا واجمين وتجمدت أنظارهم إلى ساقيها المرسومتين فى بنطالها الضيق، وصدرها الناهد، وشعرها المسترسل الذى يسافر ويعود فى نسائم الربيع الطرية.
وقفت فاهتزت القلوب، ومالت إلى أسفل فمالت معها الأجساد على الجانبين، وأشارت بيدها فهمّوا نحوها يحدوهم جميعاً أمل فى لمسة أو همسة أو كلمة، لكنهم فوجئوا بقطيطة ضامرة تخرج من بين الفتارين المتلألئة بأنوار مبهرة والمكتظة بصنوف البضائع، وتجرى إليها فتلتقطها وتحتضنها وتمضى صامتة تودعها الحسرات.
عاقول
أحراش فوق الرمل بين خضراء داكنة وصفراء باهتة، تملأ عينى فجأة بينما الحافلة تجرى فوق أسفلت يمزع بطن الصحراء. نبشت فى ذاكرتى عن اسم هذا النبات الشوكى فعجزت عن الوصول إليه.
وانشغلت بصور أخرى توالت فى الطريق الممتد، لكن بين الفينة والأخرى كانت تقتحمنى صورة هذا النبات، وتقطع كل الصور.
فجأة جادت علىّ الذاكرة بصورة قديمة، كنت أقف فيها فوق طريق ترابى يعلو قريتنا، راكباً حماراً جائعاً، كان ينحرف نحو نبات شوكى على جانب الطريق، ويلتهم منه على قدر استطاعته، وجاءنى صوت عجوز كان يمتطى صهوة جمل نحيل:
- العاقول تأكله الجمال فابعد حمارك عن زاد جملى الوحيد.
جنازة
ماتت زوجة العمدة، الذى يدوس بلا رحمة على أعناق أهل القرية، فولولت النساء فى الشوارع، وأجهش الرجال بالبكاء، وتزاحموا على حمل نعشها إلى المقبرة البعيدة.
بعد أيام قليلة مات العمدة، فأغلقت الدور على نساء يرقصن، ورجال يصفقن، وعيال تصدح بغناء طويل، ومضت جنازته فى شوارع القرية على أكتاف بناته العانسات، وهن يتساءلن فى ضجر: لماذا لم يسمح المرحوم للناس بأن يقيموا مقبرة قريبة من البيوت.
غنيمة
ركل الشرطى بقدمه مشنة الليمون الناضر لعجوز تقف على طرف السوق، فتدحرج تحت أقدام العابرين. صرخت بكل ما أوتيت من قوة وراحت فى نوبة بكاء طويل. جاء الناس مسرعين إليها، ودس كل واحد منهم يده فى جيبه وأخرج ما يقدر على مساعدتها به.
بعد أن مضوا جلست تعد ما تراكم فى جيبها، فجفت دموعها، وانبسط وجهها المنقبض، وسرت فى شرايينها دفقات عارمة من السرور.
جاءت فى اليوم التالى بليمونها، ووقفت فى مكانها المعتاد، تقلب عينيها يميناً ويساراً بحثاً عن أى شرطى ظلوم.
غياب
فى سنوات الغربة أصيب الرجل الأسود بالبهاق، وحين عاد إلى بيته مشمولاً بنظرات العجب، قالت زوجته البيضاء لزائريه:
- لم يتحمل فراقنا فخسر أكثر ما جذبنى إليه أيام الصبا.
ثقل
انكسرت الرجل الرابعة من الكرسى القديم، فقالت الأرجل الثلاث للرجل البدين الجالس فوقه شارداً:
- ارفع جسدك قليلاً، ليحمل الهواء عنا ربع الحمل الذى نطيقه.
اختيار
قال الأستاذ لتلاميذه:
- قررت أن أمنح نصفكم ستين فى المائة من درجة مادة الرياضيات، والنصف الآخر عشرين فى المائة، شرط أن يختار نصفكم خيار الخمس.
وزع عليهم أوراق الاختيارات، فدونوا فيها خياراتهم، فلما فحصها وجد اثنين فقط قد اختارا خمس الدرجة، فنظر إليهم، ثم مضى صامتاً، تاركاً كلاً منهم يرسل إلى زميله نظرة عتاب طويلة.
أُنس
رمل وجبل وبينهما ماء مالح فسيح، تمتزج زرقته الداكنة بزرقة فاتحة لسماء رائقة. لا شىء يعكر هذا الصفاء سوى طائر أبيض وحيد، ونبتة واقفة فوق تبة رمل صغيرة، تشاكس الريح.
يحوم الطائر فليثم الماء ثم يصعد نحو السماء، وحين يرمق الجبل ترتعد فرائصه فيعطيه ظهره، ويبتعد حائراً، لكنه حين يلمح النبتة يمرق إليها، ويقف عندها مغمضاً عينيه، وفاتحاً منقاره يحدثها، وهو يميل برأسه ليصغى إلى حفيفها الخفيض بحثاً عن أى أنس.
صيد
رمى شصه الكبير فى البركة الفسيحة المظلمة، وجلس ينتظر. مرت نصف ساعة دون أن يرى غمازته تهتز ولو قليلاً.
قال لنفسه: «سمكة لئيمة أكلت الطعم وهربت ولا بد من تغييره».
سحب السنارة، فوجدها ثقيلة. وقف على قدميه، وسحب فازدادت ثقلاً، وقف على أطراف أصابعه، وصرخ: امسكوا معى، إنها سمكة كبيرة.
هرع إليه الجالسون حوله وجذبوا معه بشدة، فسقطوا على ظهورهم. قاموا وجذبوا مرة ثانية برفق، ثم بشدة، حتى ظهر شىء أسود، ذاب فى الليل. فلما وصل إليهم وجدوه حذاءً ملفوفاً فى كيس بلاستيكى مملوء بالطين والقش والزجاج المكسور، وفى المنتصف تتقافز سمكة صغيرة، باحثة عن خلاص.