عمار علي حسن
فى نظر إدوارد سعيد يعد الاستشراق هو «المؤسسة المشتركة للتعامل مع الشرق، بإصدار تقارير حوله، وإجازة الآراء حوله وإقرارها، ووصفه، وتدريسه، والاستقرار فيه، وحكمه.. وهو أسلوب غربى للسيطرة على الشرق، واستبنائه، وامتلاك السيادة عليه.. وهو إنشاء استطاعت به الحضارة الغربية أن تتدبر الشرق بل حتى أن تنتجه، سياسياً واجتماعياً وعسكرياً وعقائدياً وعلمياً وتخيلياً، حتى إنه أصبح ليس بوسع أى إنسان أن يكتب عن الشرق، أو يفكر فيه، أو يمارس فعلاً متعلقاً به أن يقوم بذلك دون أن يأخذ بعين الاعتبار الحدود المعوقة التى فرضها الاستشراق على الفكر والفعل.. ولا يعنى هذا أن الاستشراق، بمفرده، يقرر ويحتم ما يمكن أن يقال عن الشرق، بل إنه يشكل شبكة المصالح الكلية التى يستحضر تأثيرها بصورة لا مفر منها فى كل مناسبة، يكون فيها الشرق موضعاً للنقاش».
ونظراً لأن الاستشراق لم يكن كله عملياً منصفاً يروم الحقيقة، إنما رأس حربة لمشروعات استعمارية، فإنه كرس صوراً نمطية سلبية مغلوطة عن «الشرق»، لا سيما عن العرب والمسلمين، مدفوعاً بالنزعتين الاستعمارية والصهيونية. وتقوم الرؤية الاستشراقية على أنه إذا كان العربى ذا تاريخ على الإطلاق فإن تاريخه جزء من التاريخ الممنوح له أو المستلب منه. وبناء عليه ظهر العربى فى الكتابات الغربية على أنه يمثل قيمة سلبية، وهو عدو للغرب، وعقبة أمكن تجاوزها لخلق إسرائيل، وارتبط فى الأفلام والتلفاز على أنه شخص فاسق وغادر ومخادع ومتعطش للدماء وذو طاقة جنسية مفرطة، قادر على المكيدة، ومراوغ وسادى وخؤون، ويظهر فى أدوار قائد عصابات اللصوص المغيرين، والقراصنة، والعصاة من السكان الأصليين.
وبدوره راح الإعلام الغربى يكرس جهداً وفيراً للحملة على العرب، وتشويه صورتهم، بعد أن انتهى من تشويه صورة الزنوج والهنود الحمر وبعض الأقليات التى تعيش فى أوروبا وأمريكا. ووصلت هذه الصورة المشوهة إلى مناهج التعليم نفسها، فى مختلف المدارس الغربية، لتصبح جزءاً من مضامين التنشئة الاجتماعية.
أما «الاستغراب» فهو دعوة حالمة متفائلة لدراسة الغرب وتفكيك ثقافته وتوجهاته، ولفهمها وهضمها، لامتلاك آليات فاعلة للتعامل معها. لكن هذه الدعوة لم تنتج تياراً عريضاً متدفقاً مثل الذى أنتجه الاستشراق، وهى ليست سوى جهود فردية متناثرة، تضرب يميناً ويساراً، بلا هدف محدد، ولا خطة ناظمة. لكنها فى كل الأحوال لا تقوم على تشويه الغرب، اللهم إلا فى بعض كتابات أتباع التيار الإسلامى، مثل ما كتبه سيد قطب ومحمد قطب، بل تنطوى فى أغلبها على الإعجاب به، ومحاولة تمثله، والاقتداء بما أنجزه فى المعارف التطبيقية والإنسانية والفنون، وفى العمران البشرى، لا سيما فى مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان.
ويحتاج حوار الحضارات إلى تصحيح الصور النمطية المغلوطة، وإلا ظل مجرد ترف نخبوى، ورتوش مزيفة، وخطابات علاقات عامة، تظهر وقت الأزمات، ويتم استخدامها مطية لأحوال السياسة وتقلباتها.
ويعنى هذا تجاوز الرؤية الاستشراقية التقليدية المناطقية، التى بدأت مع حركة استعمار الغرب للشرق، وتقوم على أن العداء بين الاثنين أصيل ولا فكاك منه، وتفعيل الرؤية الاستشراقية المعدلة التى تدعو إلى الحوار بين الثقافات والحضارات والأديان انطلاقاً من أن الصدام الحضارى ليس صداماً حول المسيح ومحمد وكونفوشيوس، بقدر ما هو صراع يسببه التوزيع غير العادل للقوة والثروة والنفوذ، وصولاً إلى «الرؤية المدنية الشعبية القاعدية» التى تنهض على أكتاف الغربيين المتحررين من التراث الاستعمارى، والنازعين إلى بناء روابط إنسانية، لا ترضخ للمصالح الضيقة للدول، ولا تنظر إلى «الآخر» باعتباره كتلة صماء، وترفض أى صراع على أساس الحضارات.