عمار علي حسن
تعد الحرية القيمة السياسية الأكثر ارتباطاً بالأدب، لدرجة أن بعض النقاد يعتبرون الأدب والحرية مترادفين، من منطلق أن رسالة أى كاتب يجب أن تكون هى توطيد أركان الحرية، من ناحية، كما أن العمل الإبداعى فعل حر، وممارسة الحرية تقودنا، شئنا أم أبينا، إلى سلوك إبداعى، من ناحية أخرى.
وحتى لو كان الأديب ملتزماً بقضية أو أيديولوجية ما، فإن هذا لا يجب، بأى حال من الأحوال، أن ينتقص من حريته، بل عليه أن يكتب بحرية، فى ضوء تعدد مفهوم الحرية من بيئة اجتماعية لأخرى، حسب ما تفرضه الأديان والعادات والتقاليد والقوانين، وفى إطار القيود الطبيعية المفروضة على العمل الأدبى، مثل الأشكال الثابتة (رواية، شعر، مسرحية.. إلخ) والإيقاع والعروض بالنسبة للشعر، وقوانين ملاءمة الذوق، والموضوعات التى تتضمنها النصوص.
من هنا نجد أن «سارتر»، ورغم مناداته بالالتزام، لم يتجاهل الطبيعة الخاصة للأدب، لذا لم يفصل الالتزام عن الحرية، معتبراً أن الكتابة طريقة من طرق التعبير عن الحرية، أو على حد قوله: «حرية الاختيار قسمة مشتركة بين الكتّاب جميعاً، ملتزمين وغير ملتزمين، وهى أساس المطالبة بالالتزام».
ولا تقتصر ممارسة الحرية على مرحلة الكتابة الأدبية فقط، بل تمتد إلى تلقى العمل الأدبى أيضاً، بدءاً من حرية اختيار الكتاب عبر الشراء أو الاستعارة، إلى حرية تفسير النص، مروراً بحرية اختيار الجزء الذى تتم قراءته، وحرية إدخال النص فى نسق إبداعى آخر، قد يكون فيلماً سينمائياً أو عملاً أوبرالياً، أو صوراً متحركة. لكن تعدد المتلقين قد يمثل قيداً على حرية المبدع، حيث قد يضع الأخير القراء نصب عينيه، حين يشرع فى الكتابة، خاصة إذا كان المتلقى هو الرقيب السياسى، أو الرقيب الداخلى، أو حتى المتلقى الضمنى، الذى يتخيله، أو يستحضره المؤلف.
كما أن طبيعة النص تحدد مقدار الحرية التى يحصل عليها المتلقى. وتنقسم آراء النقاد فى هذا الشأن إلى اتجاهين؛ فيرى بعضهم أن النص المركب، متعدد الأبعاد، متشابك الدلالات، يثير روح التفاعل فى نفس المتلقى، ويجعله كائناً حراً فى التعامل معه، بينما يبدو النص ذو البعد الواحد عملاً مستبداً لأنه يقضى على إمكانية المساءلة والاعتراض لدى القارئ، ولذا فإن النص الملتبس الملغوم هو أكثر احتراماً للقارئ لأنه يمنحه حريته ويدعوه للخروج من سلبيته وقصوره، ومن ثم القراءة بعقل منفتح.
وفى المقابل هناك من يرى أن المسافة التى يضعها الكاتب بينه وبين القارئ تفترض جهل الأخير، ولا تعدو كونها نوعاً من التعالى يمارسه الكاتب ليحصل على شرعية مزعومة لدى القارئ، الذى يشعر إزاء النصوص الغامضة، سواء فى شكلها أو فى مضمونها، بالضآلة. بالإضافة إلى هذا فإن الأدب، باعتباره فناً لغوياً، قد يصبح سلطة لا مرئية، وأداة للهيمنة من قبَل شخص أو فئة أو طبقة فيما يعرف بالعنف الرمزى، وقد يجد الأديب نفسه مضطراً، أو يتطوع هو، بتسخير نصوصه لخدمة سلطة معينة، ومن ثم تصبح حريته منقوصة.
ومع الأخذ فى الاعتبار كل هذه القيود التى تحاصر الأدب، فإن الفن الروائى يبدو فى شكله الحالى هو أكثر الأنواع الأدبية نزوعاً للحرية، فبعد أن كان القص التقليدى يعطى أبطاله فرصة محدودة للتعبير عن أنفسهم، حيث كان صوت المؤلف يعلو على كل الأصوات، وتقبض يده «الأبوية» على مختلف المواقف داخل النص، أصبحت الشخصيات الروائية أكثر قدرة على التعبير عن أنفسها، بعد أن تسربت النغمة الاحتمالية إلى التناول الروائى، وتعددت الأصوات داخله، من خلال تشييد اللغة، عبر الحوار الخالص الصريح، والمزج بين لغتين لفئتين اجتماعيتين مختلفتين. ودخلت إلى النص الروائى جميع اللهجات الخاصة بفئات اجتماعية تنتمى إلى مختلف المهن وجميع الأوساط والطبقات، وكل المنظورات الأدبية والأيديولوجية، لتصير مرونة الرواية هى المنبع الذى يؤمن للأديب تلك الحرية الضرورية له إذا أراد أن يصور حياة البشر تصويراً كاملاً.
ما سبق إن كان يؤكد أن الأدب، خاصة الرواية، ينزع إلى الحرية من ناحية الشكل، فإنه يشير، فى الوقت ذاته، إلى أن علاقة المضمون بقيمة الحرية تختلف حسب الظروف المحيطة بالأدباء. لكن الأمر الذى يجب الالتفات إليه، فى هذا المقام، أن الإبداع الحقيقى، هو الذى يجرى فى أجواء حرة، ويبشر بالحرية، أى يحتوى مضمونه على هذه القيمة العظيمة.