عمار علي حسن
ومما لا شك فيه أن التصنيفات أو التوزيعات التى فرضها تعقد مجالات الحياة ودروبها، والتى تم تناولها فى مقال الأمس، لا يمنع من أن الاستراتيجيات واحدة فى جوهرها وأساليبها ونهج التفكير المرتبط بها.
يجب أن تتوافر فى كل ما يتصف بالاستراتيجى الارتباط بمعايير معينة مثل: وجود تهديدات أو منافسة، واتخاذ القرارات بواسطة أعلى مستوى قيادى، وشمول جميع الأهداف الرئيسية أو الغايات الأساسية لواضعى الخطة، ثم وضع تكليفات محددة بالمهام المطلوبة. وفى ضوء هذا يتسم القرار الاستراتيجى بالثبات النسبى طويل الأجل، وبضخامة الاستثمارات أو الاعتمادات المالية اللازمة لتنفيذه وبمكانة القائمين على اتخاذه، إذ يجب أن ينتموا إلى الإدارات العليا، وكذلك بضخامة عدد من ينفذون القرار فى تفصيلاته العديدة والمعقدة.
وفى كتابه المهم «الاستراتيجية ومحترفو الأمن القومى: التفكير الاستراتيجى وصياغة الاستراتيجية فى القرن الحادى والعشرين»، الصادر عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2011، يؤكد لنا هارى آر. ياجر أن الخطط والاستراتيجيات، هما أعلى درجة فى التفكير والتدبير والترتيب ونطاق التأثير والأفق الزمنى من «السياسة» وإن كانا مثلها يتعلقان بـ«فن الممكن» أو «فن إدارة الخلاف والاختلاف»، والثلاثة متداخلون، ويتشاركون فى منظومة الغايات والطرائق، واستخدام الفكر الاستراتيجى بدرجات متفاوتة. وتبقى الاستراتيجية هى عملية فكرية منضبطة ذات مخرجات وغايات ووسائل محددة بوضوح، وهى تخدم الهدف السياسى الوطنى، وتخدم السياسة فى إطار التقلبات والتعقيدات والهواجس والغموض، ويصبح «التفكير الاستراتيجى هو القدرة على تطبيق الاستراتيجية فى الواقع، ثم صياغة ما يخدم بنجاح مصالح الدولة، من دون تحمل مخاطر يمكن تفاديها، ولذا فهو يتضمن جانبى الفن والعلم معاً.
ونظراً لأن التفكير الاستراتيجى يتطلب كلاً من التفكير النقدى والتفكير الإبداعى، إلى جانب التفكير فى التأثير المتبادل بين المنظومات والتفكير فى الزمن والتفكير الأخلاقى، فإن للخيال دوره المهم فى صياغة الاستراتيجيات، من زاوية المساهمة فى زيادة الفهم، وتوسيع التفسيرات المنطقية الممكنة، ووضع الخيارات البديلة، وتحديد الفرص المحتملة. وكل هذا يصب فى إطار «صياغة الثالوث الاستراتيجى المتمثل فى الأهداف والأفكار والموارد»، وكل منها يحتاج إلى خيال.
وهذا الاحتياج يعود إلى أن الاستراتيجية تتسم بأنها «استباقية توقعية»، وإن لم تكن «تنبؤية»، وهذا الاستباق يرمى إلى رعاية المصالح الوطنية وحمايتها مما يخبئه المستقبل، ولذا يجب ألا يقوم على التقديرات الجزافية أو الخيالات الأسطورية، إنما دراسة الاحتمالات والسيناريوهات، ووضع الافتراضات والمنطلقات، والتى تكون بدورها مشروطة بما يجرى على الأرض، وبالإمكانات المتاحة. وهذا معناه أن الخيال الذى يتم توظيفه فى إنتاج الاستراتيجيات هو خيال منطقى خلاق، يبدو ضرورياً حتى يمكننا توقع ما يأتى، واستباق الأخطار والعمل على تفاديها، أو تحقيق المكاسب وتعزيزها.
وحتى تكون الاستراتيجية محكمة وفعالة وتمتلك قدرة على التنبؤ يجب أن تعى دروس التاريخ جيداً، وتستفيد فى الوقت ذاته من عطاء مختلف العلوم الإنسانية، بل إننا قد نجد استراتيجيات موزعة على علوم بعينها، وهذا ما جعل مهارات وضع الخطط والاستراتيجيات تتقدم بشكل مذهل فى السنوات الأخيرة، مما يفرض علينا، نحن العرب، أن نهتم بهذا النوع من التفكير بعد إهمال وغياب طويل.