عمار علي حسن
ما إن وقع فى يدى العدد الأول من صحيفة «الاتحاد» الإماراتية بعد تطويرها حتى هتفت من أعماقى: «عاش الدكتور أحمد محمود»، إذ كان هو وراء هذا الشكل البديع المختلف المبهر الجذاب، الذى فغر كل من رآه فمه واتسعت حدقتاه دهشةً وعجباً، وامتلأ وجهه بالرضا والامتنان العميم.
يعمل هذا الرجل فى صمت، يجلس ليتأمل، ويفتح جهاز حاسوبه ويطالع أحدث الرؤى والنظريات والتصميمات فى عالم «الإخراج الصحفى»؛ ليستفيد منها دون أن ينقل عنها، فهو عازم على ألا يكون غير ما أراد، وأن يضيف إلى ما انتهى إليه الآخرون، أو يمزج بينه ويعيد تشكيله، ويضع عليه من عنده الكثير، ليخرج فى النهاية «الماكيت» الذى يعبر عن شخصية المطبوعة، وآمال القائمين عليها، وتطلعات قرائها.
يبدو أن صاحبنا يؤمن بما ذهب إليه الناقد والفيلسوف المجرى «جورج لوكاتش» من أن الشكل لا ينفصل عن المضمون، وهو ما استطاع أن يقنعنا «د.أحمد» به منذ أن أمسك القلم ليحدث ثورة فى عالم الإخراج الصحفى فى مصر قبل عشرين عاماً، ومن يومها و«الثورة مستمرة» ويبدو أنها لن تتوقف.
أمسكت عدد «الاتحاد» وهتفت: «يا الله، هذا رجل لا يكرر نفسه». فالصحيفة الظبيانية مختلفة عما أبدعه أحمد محمود فى «الدستور» القديم، و«المصرى اليوم» و«الوطن» وغيرها، ونسختها الأخيرة أفضل بكثير من تلك التى صممتها شركة كندية من قبل، أفضل إلى حد أن نقول: «شكلها الأخير فى قطيعة مع ماضيها».
كنت أعرف أن مخرجنا العبقرى قد سافر إلى أبوظبى ليصنع لـ«الاتحاد» شكلاً جديداً تبدأ به عامها السادس والأربعين، ورُحت أتساءل: أى شكل سأجدها عليه؟ وأستعيد كل الأشكال التى صممها د.أحمد محمود، وأقول: ربما سيختار واحداً منها ليعطيه لـ«الاتحاد»، لكن كانت المفاجأة، أنه جعلها لا تشبه غيرها، وتفوّق مع بعض مساعديه من المصريين على شركة كندية بكاملها.
يضرب صاحبنا مثلاً ناصعاً على أن «من جدّ وجد، ومن زرع حصد»، فـ«أحمد محمود» لم يترك الموهبة التى حباه الله بها تتآكل مع الأيام، ولم يستسلم للزمن الذى يتثاءب ويبتسم فى دهاء وهو يقتل مواهب كثيرة فى طريقه الطويل، إنما عمل أحمد محمود على أن يصقل ما لديه دوماً بالقراءة عن تخصصه بلا حدود وفى أى اتجاه، يقرأ فى النظريات ويذهب منها إلى التطبيقات، وما بين هذه وتلك يمعن النظر فى كل ما يعن له من إجراءات، فيستفيد ويجرب، ويرسم ثم يمزق ما رسمه، لأن طموحه بلا حد، وإرادته من فولاذ، حتى ينتهى إلى ما يروق له أو يرضيه بنسبة معقولة، وبعدها يشمر عن ساعديه، ويشحذ عقله وينادى: «هل من مزيد؟».
لقد أخذت ذائقة أحمد محمود وعقله الصحافة المصرية بعيداً، بعد أن جمدت وتكلست طويلاً، فانتقلت معه من الشيخوخة إلى الشباب، ومن التجهم إلى الفرح، ليثبت أن «الشكل» جزء أصيل من المضمون، ويبهرنا بلا انقطاع كلما نودى ليدفع جريدةً إلى الأمام.
بعد الصحافة المصرية ها هو يطلق ثورته المستمرة فى أوصال الصحافة العربية، فـ«الاتحاد» هى البداية، والبقية ستأتى من الخليج إلى المحيط.