عمار علي حسن
«أنا مكسوف».. هكذا أعطى الأستاذ مجدى الجلاد عنوان مقاله الذى علّق فيه على الأسى والأسف الذى انتابه، وهو يستمع إلى أسئلة وتعليقات ضحلة من بعض الإعلاميين الذين حضر برفقتهم لقاءً استغرق ما يربو على أربع ساعات مع رئيس الجمهورية قبل أيام.
ولدىّ وصفة جيدة مجرّبة تقى الإنسان من الخجل والكسوف، منها نوع غاية فى الصرامة، وأبعد من الإعلام، كوسيلة لنقل المعرفة وليس إنتاجها، وآخر أخف وطأة قد يصلح للحالة التى ضجر منها رئيس تحرير «الوطن» وامتعض.
أما الأولى فهى تستلهم قول أحد الحكام: «نحن الملوك إذا أحببنا شخصاً أسرناه، وإذا كرهنا شخصاً قتلناه، ومن يرد الله به خيراً لا عرفنا ولا عرفناه»، أو تلك الحكمة السابغة التى تقول: «السلطان من ابتعد عن السلطان»، فمن بيدهم السلطان والصولجان يكونون فى أغلب الأحوال مثل «نافخ الكير» وليس «بائع المسك»، ولذا إن اقتربت منهم، فلن تسلم من الشرر، أو حتى من أن يزكم أنفك دخان أسود كقطع الليل البهيم. ولهذا هناك من يزهد فى أى سبيل يصله بأهل الحكم، مهما أعطوه من طرف اللسان حلاوة، وهناك من يؤمن بأن «السلاطين يذهبون إلى العلماء، ولا يذهب العلماء إلى السلاطين»، وهناك من يذكرنا دوماً بلهفة الرئيس الفرنسى الأسبق جاك شيراك كى يلتقط صورة بجانب الأهرامات مع عالم آثار فرنسى كبير. لم يجرِ العالِمُ ليتصور مع الرئيس، بل جرى الرئيس لتصطاده الكاميرا إلى جوار العالم. ولا أحد منا يعرف كل أسماء من حكموا كولومبيا فى نصف القرن الأخير، لكن العالَم كله يعرف اسم الروائى العظيم جابريل جارثيا ماركيز، الذى كان الزعيم الكوبى فيديل كاسترو يفتخر دوماً بأنه صديق له، ويجلس معه أحياناً.
ودوماً أقول: «أجدادنا الفراعنة حفروا على جدران معابدهم أن الكاتب هو صاحب المهنة الأعظم فى الوجود، وحاجة مصر إلى الكُتّاب الآن أكثر من حاجتها إلى الرؤساء، ففى بلادنا هناك كثير من الضباط والقضاة والمهندسين والإداريين بمختلف صنوفهم يمكن أن يكونوا رؤساء مع قليل من الخبرة والتدريب، أما ميلاد كاتب موهوب فهى مسألة غاية فى الصعوبة».
وإذا كان حكام العالم، فى الغالب الأعم، لا يعرفون قيمة العلم والأدب، لجهلهم الفاضح، فإنهم يميلون دوماً إلى أن يقربوا منهم أولئك الذين على شاكلتهم، وإن اقترب منهم من حازوا قسطاً وافراً من العلم والأدب، فإن هؤلاء يكونون فى أغلب الأحيان منافقين يبحثون عن منافع، أو خائفين يسعون وراء حماية، لكن التاريخ حفل فى محطات قليلة بحكام «فلاسفة» -مثلما حلم «أفلاطون»- قربوا منهم الراسخين فى العلم. على كل حال هذه الوصفة تصلح للعلماء والأدباء الراسخين، وليس للإعلاميين، الذين امتعض منهم «الجلاد»، فلا نريد أن نحمّل الناس فوق طاقتها، ولا نكلفها بغير وسعها.
أما الثانية، التى قد تصلح لمن قصدهم «الجلاد»، فتقول: الرئاسة أو غيرها من أركان السلطة تدعو مَن تدعو لكنها لا تجبره على الحضور، إذ يمكنه أن يعتذر، ما دام لا يعرف من تمت دعوتهم معه. فأنت حين تذهب لا تعرف من سيجلس إلى جانبك، وأحياناً من سيكون قد حُدد له أن يتكلم وبما يتكلم، مثلما كان يحدث من قبل، وهذه هى القاعدة السائدة، فإن قبلت الذهاب، فلا تتعجب مما يجرى، لأن عجبك ينطوى على براءة وحسن نية أو التمسُّك بأهداب أمل كاذب، حين صدّقت أن هناك رسوخاً وعمقاً وانحيازاً للكفاءة والجدارة والإخلاص والنزاهة والمستقبل والمصلحة العامة.
فأى إعلامى ليس من حقه أن يُملى على السلطة، مهما حسُنت نواياه حيالها، أن تختار الجيدين من الإعلاميين لتقابلهم ويكونوا لسانها الذى تنطق به أو تطلعهم على أمور يأخذونها فى الحسبان وهم يخاطبون الرأى العام، لكن أى إعلامى يرى نفسه كفئاً ومختلفاً بوسعه أن يعتذر عن عدم الحضور مع من لا يعرف أسماءهم ابتداءً، حتى لا يفاجأ بأن جلسته جاءت إلى من يعتقد أنه كان يجب أن يتوارى بعيداً، وأن ظهوره فى المشهد الراهن يشكل عبئاً على السلطة لا إضافة لها، فقد يكون للسلطة اعتقاد آخر، وترى أن من تتصور أنت، كإعلامى مختلف، أن اختفاءه واجب، هو من يجب أن يرتفع صوته الآن ويؤدى دوراً مرسوماً له بإحكام، ليحقق أغراضاً خفية سيتورع «المختلف» عن ممارستها.
يا جلاد، فى تاريخ البشرية كان هناك دوماً من يُقِّيم الحاكم حسب من يفضل الجلوس معهم والإنصات إليهم، وهذه صارت قاعدة جلية لا لبس فيها، فلا تخجل، ولتصحح عنوان مقالك ليكون «أنا مندهش»، فالدهشة جميلة على كل حال.