عمار علي حسن
فى التاسع من أغسطس سنة 2008 رحل الشاعر الكبير محمود درويش مكتملاً، وحط عن كتفيه وطنه المثخن بالجراح ودفاتر شعره المفعم بالألم والأمل. مر إلى محطته الأخيرة فوق جسر عريض يصل الأدب بالسياسة ويربط الحداثة بالقضية، وعلى جانبيه ترفرف أزهار شعره الفياض الأخاذ الموشّى ببلاغة آسرة وجمال بديع. وشاء الله أن يحط «درويش» رحاله الآن، قبل أن تراوده لعبة الفراغ أو يساوره شك فى أن الشعر الخالص يكون بالضرورة مجرداً من أى أثقال وأحمال والتزامات، وأن الشاعر الكبير هو الذى يسير إلى العالم فوق حطام الأطر العامة والسرديات الكبرى، داهساً بقدميه الأفكار والأوطان والقيم وكل حبل سرى يربط الفرد بجماعته، وأن الوصول للعالمية يتطلب فك الارتباط بمسار الماضى المشحون بحب عصافير الجليل، والجلوس فوق هامة جبل الكرمل، والذهاب إلى ما وراء البحار بعينين لا يرتد فيهما ظل العلم، وفم لا يعذبه النشيد، وأقدام لم يعفرها يوماً تراب الوطن.
ورغم أن «درويش» لم يسقط يوماً بشعره إلى هوة الدعاية الرخيصة، والوعظ البائس، والأيديولوجيات الجامدة التى تقتل أدبية الأدب وفنية الفن، فقد أخذ قبل شهر من رحيله يفكر فى أن يجرح الشريان الذى ربطه بالناس من المحيط إلى الخليج، وينزع بعض لبنات من الجدار الذى استندت إليه تجربته الشعرية كلها واستراحت، مدفوعاً بقنوط من المقاومة التى أغوتها السلطة، والسلطة التى استعبدها الفساد، والأخوين اللذين التقيا بسيفيهما. وقف «درويش» فى آخر أمسية أحياها بمدينة «إرل» الفرنسية ليعلن هجره السياسة ووصله الشعر، ناسياً أن الأولى كانت لديه المادة الخام التى أطلق فى أوصالها سحر اللغة، وفتنة الصورة، وطرب الموسيقى؛ ليصنع شعراً غير مسبوق فى تاريخ العرب المعاصر، منح صاحبه وظيفة حياتية، ونحت له دوراً ظاهراً، وأفسح لقدميه مكاناً مريحاً فى الزحام، حتى صار رمزاً مكتمل الملامح لوطن عصى على الاقتلاع والفناء، وخريطة تزهو فى الذاكرة وتصل الماء بالماء مهما تآكلت حدودها، وطمست معالمها. كاد «درويش» أن ينسى فى لحظة عابرة أن قلوب العرب استضافته واحتضنته وعقولهم قد عولت عليه بعد أن أنشدهم كلمات أقوى من القنابل، ودماً بوسعه أن ينتصر على السيف، وضحية تعذب الجلاد، وسجيناً أكثر سعادة من السجان. ولم يكن أحد بوسعه أن يغفر له لو خلع رداءه وذهب إلى العالم مجرداً من الحجر والكوفية والحصان والطريق، ولم يكن للذين رفعوه فوق أكتافهم حتى طاولت هامته السماء أن يتركوه قائماً لو أنه أشعل النار فى قصائده المكتوبة بالدم والعرق والغرين وزيت الزيتون، واستمع إلى من حاولوا إيهامه بأنه ضحية «القضية» وأن «فردوس الحداثة» لا يدخله إلا من ترك كل شىء وراء ظهره.