عمار علي حسن
لم ينشغل الذين طلبوا من الشاعر الفلسطينى الكبير محمود درويش أن يطلق القضية الفلسطينية إن أراد الحصول على نوبل بأن يفتحوا فرجة للحوار معه حول كتاب فرانسيس ستونز «الحرب الثقافية الباردة» أو كتاب «تزفيتيان تودورف» الأخير «الأدب فى خطر»، ولم يستفيضوا فى الكلام معه عن سر خلود المتنبى وجلال الدين الرومى وطاغور ولوركا وليرمانتوف وناظم حكمت، فقط أرادوا أن يخطفوه فى غفلة من الوطن والناس، بعد أن مارس بعضهم عليه قدراً من التجاهل لأنه ظل مخلصاً للوزن والصورة والمفارقات، وأغمضوا عيونهم عن المسارب التى حفرها «درويش» بين «التفعيلة» و«النثر»، وبين الخاص والعام، وبين اليومى العابر والمكنوز فى جعبة التاريخ، وتعمدوا أن يهيلوا التراب على حقيقة جلية كشمس الظهيرة تقول إن «درويش» كتب للعشق والموت والمطر والشجر والرضا والغضب والقلق والاطمئنان، والكثير من المشاعر والقيم الإنسانية العابرة للسدود والحدود والقيود، وإنه حين كتب عن البنادق والخنادق على أرض فلسطين وفى المنافى فإن كتابته لم تكن أبداً مجرد رصاصة طائشة، ولا حفنة تراب تذروها الرياح، بل كانت عملاً إنسانياً بديعاً وخالداً، يرى كثيرون فى مشارق الأرض ومغاربها أنفسهم بين حروف كلماته، ويتذوقونه فى ذاته، مستمتعين بجماله المبهر، حتى إن كانوا من غير المتعاطفين مع شوق قوم «درويش» إلى الحرية والكفاية والحياة الطبيعية للآدميين.
لو أن «درويش» أمعن النظر مليّاً فيما يدور عنه فى عقل ومخيلة أعدائه، والحق ما يشهد به الأعداء، ما اهتزت شعرة واحدة فى رأسه لمن أشعلوا فى رأسه الظنون عن شاعريته. فها هو سان سوميخ، أستاذ الأدب العربى بجامعة تل أبيب، يراه واحداً من أكبر شعراء العربية ويتساوى لديه فى المكانة مع الناقد والمفكر الكبير الراحل إدوارد سعيد، ويقول: «كانت بدايات درويش ضمن حركة الكلاسيكية الجديدة فى الشعر، لكن مع مرور الوقت تفجرت لغته الشعرية الثرية وخلط بين ما هو سياسى وما هو شخصى، فكتب عن الحب والعائلة وخيبة الأمل من دون أن ينسى الإطار العام الذى يحكم كل هذا». وها هو الأديب الإسرائيلى أ. ب. يهوشواع يقول عن «درويش» فى معرض مقال رثاء باهت: «كان شاعراً كبيراً، ومن يقرأ شعره حتى لو كان مترجماً عن لغته الأصلية يتأثر بصورة عميقة من ثراء بلاغته والحرية الشعرية التى أجازها لنفسه».
ولم يُقدَّر لـ«درويش» أن يقرأ ما كتبته عنه كبريات الصحف الأجنبية؛ فها هى «التليجراف» تصفه بـ«شاعر المقاومة» و«الإندبندنت» تعتبره «الأوديسا الفلسطينية» و«نيويورك تايمز» تقول إن «كلماته المؤلمة عن المنفى والشتات وأبياته العذبة عن الإنسانية جعلته رجل الأدب الفلسطينى، وواحداً من أكبر شعراء العرب المعاصرين».
هذا يدل على أن العالم كله لم يرَ «درويش» إلا ملتصقاً بقضيته العادلة، التى لم يتهمها أحد بأنها نالت من شاعريته وحجزته عن الانطلاق إلى العالمية سوى حفنة مغرضة من النقاد العرب، حاولت أن تهبط بقيمة «درويش» لتعلى من قامة شعراء أقصر، وسعت بخبث ظاهر إلى تجريد الفلسطينيين من أحد أسلحتهم القوية فى معركة المصير، وهو شعر «درويش» ورفيقيه سميح القاسم وتوفيق زياد.
مات «درويش» قبل أن يفيض بين جوانحه غم أسود مما يجرى بين «فتح» و«حماس» فيكبر داخله القنوط وتصغر القضية ويتسع طريق مَن وسوسوا له بأن يشرع فى كتابة «نسيان الذاكرة» ويسقط من حساباته «ذاكرة للنسيان» وأن يهش عن باله أى ضنى وهو يرى الحصان وحيداً ويتيماً، والظل العالى ينحسر حتى يموت تحت أحذية الغزاة الثقيلة.