عمار علي حسن
فى صفحته على موقع التواصل الاجتماعى «فيس بوك» يطلق الأستاذ رضا إمام على نفسه «راهب الأدب»، قد تكون تلك قناعته بعد أن نظر ملياً إلى حاله، وربما هى تسمية محبيه وبعض تلاميذه الذين استقر فى يقينهم أنه قد منح القصة القصيرة والأقصوصة من خياله ورؤيته وجهده الكثير وكان عائده من هذا القليل، لكنه لم يقنط، ولم يقلع عن الإمساك بالقلم، وواصل مشاكسة كل من حوله، وما حوله، الحجر والشجر والبشر، ليستنطق هؤلاء جميعاً، وما بينهم ومعهم وفوقهم وتحتهم، وعن يمينهم وشمالهم، ويجمع نثار الحروف صانعاً سبائك سردية متينة البنيان، تقول بلا مواربة إننا أمام أديب كبير، يمتلك أدواته، ويشحذ دوماً قريحته العامرة بالحكايا والخبايا، ويهديها إلينا بلا كلل ولا ملل، فى ست مجموعات قصصية، وأخرى فى الطريق.
حكايات متنوعة بين الريف والمدينة، بعضها ملتصق بالأرض، يشرب من ترابها حتى الثمالة، وبعضها يحلق فى أجواز الفضاء البعيد، مكاناً أو خيالاً مجنحاً. بعضها كُتب بفصحى عتيدة، ووفق تراكيب خاصة بمن كتب، وبعضها باللهجة العامية أو الحكى الشفهى الدارج والمتداول على ألسنة بسطاء الناس. لكن فى الحالتين لا يتخلى إمام عن غنائيته، حتى لو اختلفت الضمائر عنده، «الأنا» و«الأنت» و«الهو»، متنقلاً أحياناً بينها فى القصة الواحدة، من دون أن يشعر من يقرأه بشىء ناشز، ولا غربة.
تتسم قصص إمام بالتكثيف الشديد، فأغلبها لا يزيد على صفحة، وأطولها بضع صفحات تُعد على أصابع يد واحدة، ومن بينها أقاصيص قصيرة جداً لا تتجاوز كلمات تشكل سطراً واحداً، تشى بأنه كان رائداً فى هذا اللون السردى الذى يذيع صيته الآن، ويلقى تشجيعا ظاهراً. وهذا القصر يعمقه استخدام جمل قصيرة بشكل لافت، ومثال على ذلك ما جاء فى قصة «الأرجوحة» حيث يقول: «انطلقت فيما يشبه الغناء.. الرغاء.. النعيق، وجاء نحل كثير، وأشجار راحت تتمايل، وطيور حامت، وطبول قرعت، ودفوف ضربت، وأصوات مختلطة راحت تتصاعد ما بين الغمغمة.. الصراخ.. الغناء، وقد على علت ضحكتها كل الأصوات».
والسمة الثانية لقصص «إمام» هى الميل إلى الخيال والتخييل، فى اتجاه لخلق «واقعية سحرية» أصيلة، لا سيما فى مجموعته «رجف الذاكرة»، حيث تتوحد عناصر الطبيعة ومفرداتها الجمادية، وتتفاعل مع الأحياء، نباتات وطيور وحيوانات وبشر، لصناعة أساطير مدهشة، تتصاعد درامياً لتصل إلى ذروتها قبيل النهاية، وتنتهى بمفارقة لا يحبكها على هذا النحو إلا صاحب خيال خصب، وبصيرة نافذة، وعقل متوقد، وقلم عرك الحروف، ونفس كابدت كثيراً. وقد تبدأ القصة نفسها بعنوان خيالى مثل قصة «حينما طارت الحمير صوب السحاب» و«هرولة الظلال» و«حديث النار» و«نهيق المقاعد» و«همس النخيل» و«لسع الغبار» و«شدو الصلصال» و«عطر الديدان» و«قلادة البحر» و«أشلاء البحر» و«موكب الأشلاء» و«أعشاب زجاجية» و«الرصيف أريكة مجانية للعابرين» و«جبال الهوى» و«بذور الدم».
فإن أتينا إلى التفاصيل نجد عصافير مصنوعة من الطين تطير، ورجلاً يبيع الشمس حاملاً إياها من سوق المدينة إلى القرى، وآخر يبعثر أوراده فوق الموج، ونهراً يقرأ ما يكتبه الكتاب، وأطفالاً ظهرت لهم زعانف حين أصروا على مواصلة لعب الكرة بعد أن غرق الملعب وتحول إلى بركة، وحروفاً صارت جسراً يعبر عليه الغزاة.. إلخ.
لا يقف «إمام»، المخلص لفن القصة القصيرة، عند حد نحت عالم خاص به ترسم قصصه وأقاصيصه ملامحه، عن الريف والشوارع الخلفية للمدينة والحرب والبحر والسوق والقنص والصحة التى يأكلها تقدم السنين، بل يجتهد عميقاً لينحت تراكيب لغوية وأساليب خاصة به، يمزج فيها بين المتداول على ألسنة عموم الناس وما يصنعه هو من لضم ألفاظ عربية عتيقة وذات جرس لافت، ليتراوح بين عناوين تأخذ العناوين نفسها لأغان شهيرة مثل «حكاية غرامى حكاية طويلة» و«منديل الحلو» أو دارجة مثل «ظهورات» و«عصافير الجنة» و«فردة حلق بدلاية» و«الفرة»، وبين أخرى مثل «الصراط» و«تداعيات خريفية» و«معراج العشب المحترق والرياحين» و«تجليات الحناء» و«غواية الأرصفة» و«استقصاءات الماء واليابسة» و«مراوحات الظل» و«خصف الرؤى» و«القمر وما طغى».
وتلك المراوحة بين الدارج والآتى من بطن المعاجم، وبين العفوى والمدبر بعناية، وبين الخفيف والثقيل، لا تقتصر على العناوين إنما تنسحب على سطور القصص ذاتها، وفى هذا عدد بلا حساب.
قصص إمام مصبوغة بالغربة والوجع، ومسكونة بالمتاهات التى لا حصر لها، والتى يضيع فيها كل من على الأرض، بلا استثناء، وربما لا يجدون فرصة للخروج منها سوى بإطلاق الخيال أو اجترار الذكريات.