عمار علي حسن
من الصعب دفن الأيديولوجيا، رغم الحقيقة الجلية التى تبين أن الأيديولوجيات التى عرفها العالم حتى الآن لم تنجح فى إسعاد البشرية ورفاهتها، وأن الوصول إلى «أيديولوجيا حديثة» يرتضيها الجميع أمر غير يسير، بل غير مطلوب فى نظر الكثيرين. فالتمسك بالخصوصية النابع من إحساس قوى بالهوية لا يزال يلزم مجتمعات عديدة، ويسيطر على أذهان الأغلبية الكاسحة فى كل زمان ومكان. فحتى فى أكثر هذه المجتمعات تلمساً لطريق الحداثة، نجد القريحة الشعبية لا تزال حريصة على إنتاج فلكلورها، ووضعه فى وجه أى تيار يريد أن يجرف هذه المواريث والتقاليد الراسخة كالجبال الرواسى.
نعم يستعمل كثيرون لفظ أيديولوجيا للحديث عن شىء كريه أو ممقوت، يفسد ولا يصلح، ويشد إلى الخلف دوماً، ولا يدفع إلى الأمام أبداً، ويقود إلى ممارسة سلوك عنيف وعدوانى ضد المختلفين فى الرأى والاتجاه. لكن حتى أولئك الذين يكرهون الأيديولوجيا، فإن كراهيتهم هذه حين تنتظم فى أفكار محددة، ينتمون إليها ويدافعون عن اعتناقها ويبررون بها الظواهر والوقائع والسلوكيات، فإنهم يقعون تحت طائلة أيديولوجية أو يعتنقون إحداها، حتى لو كانوا لا يشعرون بذلك، ليس هذا فحسب، بل إن أيديولوجيتهم هذه، التى قد لا تأخذ مسمى معيناً أو اصطلاحاً محدداً، تبدو ممقوتة بالنسبة لأعدائهم، تماماً كما هم يمقتون الأيديولوجيات التى تدفع هؤلاء الاعداء إلى تبنى الصراع ضدهم، أو العمل فى الاتجاه الذى لا يحقق مصالحهم، ولا يمكنهم من تحقيق أهدافهم.
فالأيديولوجيا لديها قدرة عجيبة على أن تتغلغل فى كل ما ننتج من أفكار، وما نبدع من فنون، فهى موجودة فى الأفكار السياسية التى نتداولها فى مراكز الأبحاث، وأروقة قاعات الدراسة، ودهاليز الأحزاب السياسية والنقابات المهنية والعمالية، والجمعيات الأهلية.. وموجودة فى حياة الناس اليومية، فى السوق والبورصة، وفى المطاعم وأمام المخابز، وفى حديث الأسرة حول مواقد الشتاء التى تزهر باللهب.. ومتضمنة بدرجات متفاوتة فى الفلسفة بمختلف ألوانها، وفى أشد حالاتها تجريداً وتعقيداً ومنطقية.. وفى مختلف ألوان العلوم الإنسانية مثل الاقتصاد والاجتماع والتربية والتاريخ وعلم النفس والأنثروبولوجيا.. وفى الإبداع الأدبى، نثراً وشعراً، فى الرواية والقصة والمسرحية والنقد والقصائد والفلكلور الذى ينتقل من جيل إلى جيل.. وكامنة فى الفن السينمائى والتشكيلى ورسوم الكاريكاتير.. إنها موجودة، بدرجات متفاوتة على استحياء أو بشكل صارخ فاضح، وتفرض نفسها حتى وقت أن نتصور أننا نتخلص منها، ونجهز عليها، ونفكر بغيرها.. موجودة ولا فرار منها.. وإذا كان الفرار من الأيديولوجيا صعباً، فإن البديل هو تفكيك أبنيتها، بحيث ننزع عنها بعض الأوهام، مثل الحديث عن ارتباطها بالطبيعة البشرية، والادعاء بعلميتها التامة، واستخدامها فى تبرير حتى أكثر الأخطاء فداحة، وجمودها عند نقاط محددة لا تفارقها بدعوى التمسك بالجوهر. عند هذا الحد ستنجلى «الأيديولوجيا» وتتخلص من شوائبها العديدة، لتؤول فى النهاية إلى «منظومة» من القيم السياسية، تختلف من أيديولوجية إلى أخرى، لكنها جميعاً تمثل قيماً أصيلة لا يمكن للإنسانية أن تعيش وتتقدم من دونها.