عمار علي حسن
وتبلغنا رواية يوسف القعيد الأخيرة «مجهول» منذ أول سطورها بأن بطلها استجاب لـ«النداهة» فاختفى عند شط النيل، ليفتح خلفه سيلاً من التكهنات والتخمينات أقله دار حول سعيه وراء كنز يقال إنه مخبوء تحت جدران بيته أو رغبة فى خلفة الولد بعد الزواج من امرأة أخرى غير زوجته التى أنجبت له البنات. وانتقال البطل من قريته أعطى الكاتب فرصة كى ينتقل من البيئة القروية التى سيطرت على أغلب رواياته وقصصه، إلى جانب موضوع الحرب، إلى عوالم المدن الصغيرة أو البنادر، لكن يبقى «القعيد» مخلصاً لمقولته الشهيرة: «القرى من صنع الله، أما المدن فمن صنع البشر»، لهذا تبقى القرية المحضة هى منبع الدهشة والأسرار والفطرة الاجتماعية والحكايات التى تتناسل بلا هوادة، وعنها وفيها يكتب القعيد أفضل ما لديه.
كما منح هذا الانتقال المفاجئ والغريب الكاتب قدرة على الإبحار فى عالمى الغيبيات والخرافات، بعد أن عجزت البراهين العقلية عن تفسير ما أقدم عليه بطل الرواية «حسن أبوعلى» فأضفى هذا على الرواية مسحة صوفية تقاطعت فى بعض المواضع مع التصورات الدينية النفعية التى تغلب على بعض شيوخ القرية من الوعاظ، وهى طالما تكررت فى أعمال روائية عن القرية المصرية، لا سيما تلك التى كانت تتعامل معها باعتبارها وحدة مصغرة من الدولة أو تمثيلاً اجتماعياً لوظائفها المادية والرمزية والاعتبارية، حيث يلعب فيها العمدة أو الشيخ دور الحاكم، ويمارس ذوو الأملاك دور الطبقة الممكنة أو العليا، ويبدو شيخ الجامع هو المؤسسة الدينية، ويلعب الخفر دور الشرطة، واللصوص هم سارقو القوت وصانعو الشر، ويبقى الفلاحون هم عموم الشعب، وهى المسألة التى طالما لمسها القعيد فى رواياته السابقة، خاصة «الحرب فى بر مصر».
ربما أعطى «القعيد» روايته عنوان «مجهول» اتكاء على مراوحة أبطالها بين الخوف والرجاء، خوف من آتٍ غامض، ورجاء فى أن يكون ما يأتى فيه خير وسعادة، لكن فى الحالين يتعامل هؤلاء مع أمر ما غير معلوم فى مخاوفهم وأمنياتهم، وقد لا يملكون خيارات بديلة راسخة ومضمونة فى مواجهته. وهذا الوضع ينسحب على عموم المصريين فى اللحظة الراهنة، مع اضطراب الأحوال وسقوط اليقين فى السلطة والنخبة السياسية والتيار الدينى بشعاراته الزائفة ووثوقيته المصطنعة، وعندها بدا كثيرون فى حالة استهواء شديد، يبحثون عن أى خيط أمل يتعلقون به حتى لو كان وهماً، وهذه هى الوظيفة التى لعبها الكنز فى الرواية، وهو مخرج نابع من واقع معيش بائس تحول إلى ظاهرة فى المجتمع المصرى فى العقد الأخير، حيث نشط الناس فى الصعيد والدلتا، من سكان المدن والبنادر والقرى التى بنيت بيوتها فوق أرض كانت تمثل مراكز حضارية فرعونية، فى النبش عن كنوز تحت جدران بيوتهم فى محاولة لتحصيل ثراء سريع بعد أن أوصد الباب أمام الطرق المشروعة والمضمونة لتحقيق هذا الهدف عبر بذل الجهد، وإتقان العمل، واستغلال الوقت، والتدريب المستمر.