عمار علي حسن
«محمد ناجى».. خبر موتك يليق بك، فقد تلقيناه والفجر يدق الأبواب، فجر جلى ندى صفى كنفسك الرائقة. لم أبكك، فقد كنت أعرف ألمك الذى حجزك إباؤك من أن تصرخ به فى وجه مرض لعين سكن كبدك الذى أرهقته السنين، وفى وجه أمراض ألعن رماها فى وجهك كل أولئك الذين سعوا بغير حق ولا ورع إلى أن يجعلوك من سكان الهامش البارد، فتقعد مذموماً محسوراً، لكن خاب مسعاهم، فمحبوك ومقدرو ما خطه بنانك يعرفون مكانك ومكانتك، وموقعك الحقيقى فى دنيا الساردين.
مات «محمد ناجى» الروائى الإنسان، والإنسان الذى ولد ليروى، وفى رأسه ووجدانه كثير مما لم يحكه لنا بعد، رغم أنه قد سرد علينا ما لا ينسى: «خافية قمر» و«مقامات عربية» و«سفر» و«لحن الصباح» و«الأفندى» «العايقة بنت الزين» و«رجل أبله وامرأة تافهة» و«قيس ونيللى»، وأنشد فينا ديوانه البديع الوحيد: «تسابيح النسيان».
التقيته فى عودته الأخيرة للقاهرة، كان جسده متعباً والألم يطل من عينيه، لكن روحه الجسورة خبأت الوجع خلف جدران إرادته الصلبة، فرن صوته بضحكات مفعمة بالأمل، وحدثنى عن الرواية التى يكتبها الآن فى أوقات تتبادله بين شقة ضيقة وسرير أبيض فى باريس، حدثنى ورأسه مشغول بإبداع جديد، يريد أن يسابق الزمن حتى يتركه وديعة لنا، لكن يد القدر لم تمهله، وأوقفته عند حد لن يضنيه، فقد كتب وكفى ووفى، لكنه يضنينا نحن لأننا حرمنا من نعمة الاندهاش التى تنتابنا ونحن نقرأه.
سألته فى جلستنا الأخيرة بمقهى «ستراند» عن الأديب المكسيكى «خوان رولفو»، الذى تعلم منه جابريل جارثيا ماركيز، فهز رأسه، وقال: قرأت عنه ولم أقرأ له، وأعرف أنه مدهش. فقلت له: أنت «رولفو العرب»، فروايتك الأولى «خافية قمر» بديعة مثل روايته الأولى والأخيرة «بدرو مارانو»، «رولفو» لم يؤلف سوى ثلاثة أعمال، لكنها حفرت لاسمه موضعاً بين أدباء العالم، وكذلك أنت، يكفيك «خافية قمر» و«مقامات عربية» لو لم تؤلف غيرهما لحفظتا لك مكاناً بين الأدباء الكبار، لكنك أكملت وها أنت تكتب روايتك التاسعة.
أكملنا يومها نقاشنا حول الأدب وأحوال البلد فى طريق، يا ليته طال، بين «باب اللوق» و«ميدان التحرير» وودعته والأمل يحدونى فى ألا يكون الوداع الأخير، لكنه حين أدخل جسده فى «التاكسى» ونظر إلىَّ طويلاً، سرى فى بدنى وجع وحنين، وسألت نفسى وأنا أقطع الشارع إلى بيتى سيراً على الأقدام: هل سأراه مرة أخرى؟
كان محمد ناجى من أولئك الذين تحسبهم أغنياء من التعفف، يحتفظ بعوزه لنفسه ويوزع كرمه على الناس. عاش حياته لم يطلب من أحد شيئاً، ولم يبخل على أحد بما لديه، صبر واحتسب، وصادق مرضه وتحايل عليه، أو هدهده ساعات كى يمنحه فرصة للكتابة، ويهبنا نحن وقتاً كى نقرأ ما احتضنته سطور هذا الساحر الصامت.
مع السلامة أيها النبيل الجميل، لتنعم روحك بالسكينة ورحمة الله الواسعة، ونلتقيك على خير، فى رحاب ذى الجلال.