عمار علي حسن
ما من شك أن حياتنا صارت مسيسة بشكل أو بآخر، فقد أصبحت السياسة متداخلة مع الكثير من سلوكنا، وعاداتنا اليومية، وامتد ذراعها، فطوّق كل ما كنا نعتقد فى الماضى أنه بعيد عنها كل البعد. وعملية تسييس الظواهر الاجتماعية كانت هى الآلية التى ميزت علم السياسة فى القرن العشرين عن القرون التى خلت، فقديماً كان هناك فرق واضح بين السياسى والأخلاقى، فالإجهاض مثلاً، كان فى القرن التاسع عشر مسألة أخلاقية، وكان وضع الأسرة ومسائل الصحة والتربية بعيداً عن اهتمامات السياسة، باسم احترام الحياة الخاصة.
أما فى القرن العشرين، فتم توسيع ميدان السياسة، ليشمل كل المسائل السابق ذكرها، وامتدت شبكة التفسير السياسى إلى كافة النشاطات الإنسانية، بل وصلت إلى الظواهر الطبيعية، فعدم هطول المطر، أو وقوع الزلازل، يبدو لأول وهلة أمراً بعيداً عن السياسة، لكن إعادة النظر فى هذه المسألة سيقود إلى نتيجة مفادها أن السياسة تقع فى قلب هذه الظاهرة الطبيعية. فبعض الناس يعتقدون أن هذه الكوارث نجمت عن غضب الله سبحانه وتعالى على الحكام، لظلمهم وفسادهم، وفى كل الأحوال فإنهم سيلجأون للسلطة لتنقذهم مما حل بهم من خسائر، وعليها أن تستجيب، فى هذه الأوقات الحرجة، حفاظاً على الشرعية، وضماناً للاستقرار السياسى.
إن سؤالاً مثل: هل موسيقى موزار ذات طابع بورجوازى قد يبدو، لأول وهلة، أمراً عبثياً، لكن إمعان النظر فيه يمكن أن تنجم عنه نتائج محددة إذا ما تمت الإجابة عنه بنعم. ولقد وصل الأمر بعلماء السياسة إلى البحث عن الجوانب الجيوسياسية فى كرة القدم، ففى كتاب صدر عن أحد المراكز الاستراتيجية الفرنسية، شاركت فى إعداده نخبة من الباحثين، تم التعامل مع هذه اللعبة على أنها متابعة الحرب بوسائل أخرى. هذا هو الوصف الذى كان المنظّر الاستراتيجى كلاوزفتش قد أطلقه على السياسة وأنها صارت الظاهرة الأكثر كونية فى عصر العولمة، إذ إنها تبدو أشمل من اقتصاد السوق وعملية الدمقرطة، وإنها صارت إحدى الأدوات القوية فى الدبلوماسية الدولية، حيث يمكن، فى رأى هؤلاء، أن تساهم فى توحيد شطرى كوريا أو دفع عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، كما يمكن لها أن تكون إحدى وسائل تحقيق الوحدة الوطنية فى البلاد متعددة الأعراق واللغات والديانات، حيث تتضافر مختلف الجماعات حول المنتخب الوطنى، الذى يعد رمزاً تعلق عليه الأمة بعض آمالها، خاصة إذا كان يضم تحت لوائه لاعبين ينتمون إلى هذه الجماعات.
وتنبع هذه التصورات من شيئين أساسيين، الأول: أن العملية السياسية تبدو معقدة للغاية، نظراً لتداخلها الشديد مع حقول معرفية ونشاطات إنسانية أخرى، ويأتى التحليل ليبسطها عبر نماذج تأخذ أشكالاً مختلفة تتراوح بين الكلام اللفظى الصرف والحسابات الرياضية الدقيقة، والثانى: أنها عملية تتسم بالشمول، إلى حد كبير، إذ أن كل النشاطات البشرية قابلة للتسييس عندما تدخل فى صميم اهتمامات السلطة السياسية. وعندما يربط الإنسان فكرياً بين ظاهرة ما والنظام السياسى تكتسب تلك الظاهرة معنى سياسياً، بحيث من الممكن أن يصبح كل نشاط بشرى عملاً سياسياً، فى ضوء تطور الواقع الاجتماعى، اقتصادياً وتقنياً، أو على حد قول روبرت دال: «سواء شئنا أو لم نشأ فلا يوجد أحد قادر على أن ينأى بنفسه عن الوقوع فى دائرة من دوائر التأثير لنظام سياسى ما، فالمواطن يتعامل مع السياسة عند تصريف أمور الدولة، المدينة، المدرسة، الكنيسة، الشركة، النقابة، النادى، الحزب السياسى، الجمعيات التطوعية، وغير ذلك من منظمات عديدة أخرى، فالسياسة هى حقيقة من حقائق الوجود الإنسانى، لا يمكن تجنبها. وكل فرد يجد نفسه مشتركاً بطريقة ما، فى لحظة ما، فى شكل من أشكال النظم السياسية.. وإذا كان المرء لا يمكنه تجنب السياسة، فإنه بالضرورة لا يمكنه تجنب النتائج المتولدة عنها».