عمار علي حسن
ليست هذه هى المرة الأولى ولن تكون الأخيرة فى تاريخ مصر التى يُطرح فيها تساؤل حول مدى التوافق والتنافر بين استحقاقات التنمية المحلية فى مصر والتزاماتها الإقليمية حيال أشقائها وجيرانها، لكن الأمر يبدو مختلفاً فى هذه الآونة عما اعتادته مصر على الأقل طيلة الخمسين سنة الفائتة، ما قد يشكل ضغطاً شديداً، ولو إلى حين، على محاولة المواءمة بين ما يطلبه الأهل وما ينتظره الجيران. فالآن هناك ظرفان متزامنان يؤثران بقوة فى أى رؤى وتصورات وتدابير ترمى إلى عدم إخلال مصر بواجباتها حيال العالم العربى، أخذاً ورداً، وفى إطار «الاعتماد المتبادل» بغض النظر عن تفاوت نسبته بينها وبين الدول الأخرى، وفى الوقت نفسه قيامها بتحقيق ما يحتاجه شعبها وهو كثير، وطال أمد الانتظار. وهذان الظرفان هما على وجه التحديد:
1 - طفرة هائلة فى التوقعات أو التطلعات أعقبت ثورة 25 يناير، واتسعت أرجاؤها وتعمقت، وهى تدور فى مجملها حول تحقيق العدل الاجتماعى وإنهاء الظلم والقهر والإهانة وتعزيز حرية التفكير والتعبير والتدبير والقضاء على الفساد وترسيخ الديمقراطية بإجراءاتها وقيمها وممارساتها، وهى تنبع فى مجملها من المبادئ أو الشعارات العامة للثورة.
وإذا كانت قطاعات من الشعب لم تشارك فى «يناير»، فإن مشاركتها فى «يونيو»، وهى مسألة ما كان لها أن تتم لولا انطلاق الثورة الأولى، خلقت لديها شعوراً بالاقتدار السياسى والإيجابية فى المطالبة بالحقوق المادية والمعنوية معاً. وإذا كانت بعض أركان السلطة التى نشأت عقب ثورة 30 يونيو قد تدرك عكس ذلك، فإن إدراكها هذا لا ينبنى على أساس علمى سليم، إنما هو نابع من تقدير خاطئ بأن هناك حالة تخلٍّ عام عن الفعل الثورى بدعوى أنه قد يفتح أبواب الفوضى أو يضع الدولة على فوهة الخطر، لا سيما فى ظل التجربة القاسية لحكم جماعة الإخوان، وكذلك المنحنى الوعر الذى انجرفت إليه ثورات عربية أخرى. ففى الحقيقة فإن القاعدة الشعبية العريضة لم تعُد راغبة فى أى انزلاق إلى العنف ولا يمكنها أن تناصر الإرهاب، لكن فى الوقت ذاته ليس بوسعها التنازل عن مطالبها، لأنها مستحقة وضرورية أولاً، ومرفوعة فى وجه السلطة منذ زمن طويل ثانياً، وتحظى باتفاق عام، حتى ولو اضطر الناس إلى القبول بالتدرج فى تحقيقها متبعين طريق الإصلاح وليس الثورة، التى تفرض تغييراً جذرياً وعميقاً وفى زمن وجيز. وثورة التوقعات تلك لا يمكن الاستجابة لها بعيداً عن وضع وتنفيذ عملية تنمية شاملة، اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية، لا تقتصر على جانب وتهمل البقية، وبوسعها أن ترتب الأولويات من حيث مدى الاهتمام وحجم الأموال والجهد الذى من الضرورى بذله بغية تحقيقها، لكن من الضرورى أن تمضى مصر فى كل هذه المجالات أو المسارات على التوازى وليس على التوالى كما يروج البعض الآن.
2 - حالة اضطراب فى المحيط الإقليمى لمصر، بصورة غير مسبوقة منذ انطلاق حركات التحرر الوطنى ضد الاستعمار الأجنبى إبان ثورة يوليو 1952، مع الأخذ فى الاعتبار أن تلك الحركات كانت تسير بالعالم العربى نحو التوحد والتآزر فى الغالب الأعم، لا سيما قبل الدخول إلى «الحرب العربية الباردة» فى ستينات القرن العشرين بين مصر والمملكة العربية السعودية. أما هذه المرة فإن غياب الاستقرار يصاحبه نزوع إلى التفكك والانقسام الذى يأتى فى ركاب شحن طائفى وأنماط من الحرب الأهلية أو وقوف على أبوابها، وحالات من التباعد الكبير بين السلطة والمجتمع، وثغرات واسعة تسمح للقوى الخارجية بأن تدس أنفسها فى شئون العرب.
والنقاش السياسى فى مصر أصبح منصرفاً بقوة إلى تشخيص هذا الوضع، وتفسير تأثيراته على الأوضاع الداخلية، بصيغة تتراوح بين تقديرات حقيقية وأخرى جزافية، والأخيرة إما ناجمة عن مخاوف أو هواجس عميقة حيال تماسك الدولة والمجتمع فى ضوء ما حدث فى مجتمعات عربية أخرى شهدت انتفاضات وثورات، أو ناتجة عن توظيف السلطة لهذه الحالة فى إعلاء «الأمنى» على ما عداه، ودفع المجتمع إلى زاوية الرضا بالمتاح، إلى درجة أن المواطن العادى فى مصر بات يردد من دون توقف: «الحمد لله لم نصل إلى حالة العراق أو سوريا»، وما زاد الطين بلة فى هذا الاتجاه هو ظهور «داعش» واستيلاؤها على أجزاء من هاتين الدولتين وتهديد المحيط الإقليمى كله، بالتزامن مع تعرض مصر لموجة إرهابية جديدة تستهدف مؤسسات الدولة والمجتمع على حد سواء.
(ونكمل غداً إن شاء الله)