إهدار الموارد البشرية المصرية

إهدار الموارد البشرية المصرية

إهدار الموارد البشرية المصرية

 لبنان اليوم -

إهدار الموارد البشرية المصرية

بقلم : مصطفي الفقي

لا أخالف الحقيقة إذا قلت إن «مصر » واحدة من أغنى الدول فى العنصر البشرى، الذى يجب أن يكون تعويضًا تلقائيًا عن نقص الموارد الطبيعية فى بلد يتزايد فيه السكان بمعدلات عالية، ولكنه يحتوى على كفاءات لا نظير لها فى المنطقة كلها، حتى إن ذلك العنصر البشرى المتميز هو الذى علم وعالج وهندس فى كثير من الأقطار العربية والأفريقية، فالمصرى يتميز بذكاء فطرى، ولكن تنتقص منه «الفهلوة»، كما يتميز بـ«عبقرية اليدين»، ولكن تنتقص منهما الرغبة فى القفز على المراحل والتسرع دون تفكير، كما أنه يتميز أيضًا بالمهارة والحيوية وسرعة التقاط المعلومات والأفكار، ولكنه يفتقر إلى عنصر التنظيم والعمل كفريق، لهذه الأسباب مجتمعة، رأيت أن أتطرق اليوم إلى موضوع حيوى فى مسار العمل الوطنى المصرى، وأعنى به التوظيف الأمثل لمواردنا البشرية، فنحن عجزة إلى حد كبير عن تحقيق الاستغلال الأفضل للكفاءات النادرة التى نملكها والعقليات المتألقة التى تعيش بيننا والخبرات المتراكمة لدى علمائنا من أصحاب المهن وأذكيائنا من أرباب الحرف، ولكى أتطرق إلى هذا الأمر فى صراحة ووضوح، فإننى أطرح الملاحظات الآتية:

أولًا: لعبت مسألة «الإقصاء السياسى» لكثير من العناصر المتميزة دورًا سلبيًا فى قضية تعظيم الفائدة من الموارد البشرية فى «مصر»، وأضحت تمثل خسارة كبيرة على الوطن فى النهاية، فالانتماءات السياسية والمعتقدات الفكرية لا تقلل من أهمية الفكر الذى يحمله صاحبه والخبرة التى يحوزها، لذلك فإن استبعاده من مواقع العمل الوطنى هو تصرف غير متحضر يعكس نوعًا من تعذيب الذات وإهدار مورد دون مبرر، والأمر هنا بالطبع يختلف عن حالة «الإدانة القانونية» أو «التجريم السياسى»، فتلك مسألة أخرى لا نملك القفز فوقها، خصوصًا فى فترات التحول السياسى التى تمر خلالها الدول بحالة استثنائية يصعب تجاهلها، وأنا أتساءل الآن: كم أهدرنا من كفاءات فى «مصر» بترديد العبارة البلهاء التى أسرفنا فى تكرارها حول ما يُسمى «الفلول»، فالفلول هى قوات عائدة من هزيمة معركة حربية، وهى تحمل دلالة لا أكاد ألمسها فى الوضع المصرى الراهن، لأنه لا يوجد «فلول» حقيقيون بالمعنى الاختيارى للكلمة، ولكن فقط أجيال مارست العمل العام فى مرحلة معينة، ثم شاءت أقدار الأمة أن تُدان تلك المرحلة، فليس من المنطق ولا من العدل ولا حتى من الوعى الوطنى أن تُقبر معها كفاءات، وأن يتم طمس معالم أجيال بالكامل، والخسارة فى النهاية هى خصم من رصيد الوطن كله.

ثانيًا: إن استبعاد الأفضل أحيانًا من الموقع الذى نراه أجدر به من سواه بسبب اختلاف الدين هو أمر يحتاج إلى مراجعة عصرية فى ظل منطق «مبدأ المواطنة»، فالمصريون سواسية، وتكافؤ الفرص يجب أن يكون متاحًا للجميع بغير استثناء أو إقصاء أو تهميش أو استبعاد، ولقد عشت «التجربة الهندية» لعدة سنوات، ورأيت كيف أنهم يأتون بالأكفأ، حتى وإن لم يكن تعبيرًا عن الأغلبية الدينية فى البلاد، حتى ترأَّس الدولة الهندية الكبرى أربعة رؤساء للجمهورية من المسلمين، الذين يشكلون 10% فقط من المجموع العام لسكان «الهند»، وقد أدركت حينها أن الأكفأ يتقدم الصفوف، ولا يحُول دون ذلك عامل طائفى أو عرقى أو عقائدى، وأنظر حولى حاليًا، فلا أجد قبطيًا واحدًا يترأس جامعة مصرية! كما أن تجربة المحافظ المسيحى قد تراجعت هى الأخرى، لأن ترديد عبارة «المواءمة السياسية» قد جعلها عبارة تضرب فى مقتل «مفهوم المواطنة» بمعناه الحقيقى ودلالته المتعارف عليها فى عالمنا المعاصر.

ثالثًا: إن شيوع الفساد وتراجع مبدأ «تكافؤ الفرص» أمر يمثل نقطة ضعف هائلة فى النظام الوظيفى المصرى، فقد أدى إلى هروب بعض الكفاءات، ولكنه أتحفنا فى الوقت ذاته بنموذجين رائعين ابتعدا عن الجامعة المصرية ليصبحا مثالين رائدين، كل فى مجاله، فأنا أتذكر اليوم أن «جمال حمدان»، ذلك العبقرى العظيم الذى مزج بين الجغرافيا والتاريخ، وكان نموذجًا فريدًا فى فهم «شخصية مصر» وإدراك مراحل تطورها التاريخية، أتذكر أن ذلك العبقرى هو بحق نتاج للفساد الوظيفى عندما حُجبت عنه الترقية لدرجة جامعية يستحقها، وذهبت إلى زميل آخر خلافًا للقواعد المعمول بها، يومها انزوى «جمال حمدان» فى شقته المتواضعة بحى «الدقى» حتى رحل عن عالمنا فى ظروف غامضة وحزينة، ولكنه ترك إرثا هائلًا من المعرفة جعله بحق مؤرخ جغرافيا «مصر» العظيم، صاحب عبقرية الزمان والمكان، الذى تتذكره الأجيال وتحتفى به بين الأبطال، والنموذج الثانى هو جراح القلب العالمى «مجدى يعقوب»، الذى حِيل بينه وبين التخصص العلمى الذى يبغيه، فهاجر الوطن وسعى يضرب فى الأرض، حتى أصبح بحق هو «السير مجدى يعقوب»، الذى تُفاخر به «مصر» و«أفريقيا» والعالم العربى، بل العالم كله، وإذا كان العبقريان «حمدان» و«يعقوب» هما ضحيتان لخلل فى نظامنا التعليمى، إلا أن القدر رتب لهما أن يكونا منارتين، كل فى ميدانه.

رابعًا: إن الطيور المصرية المهاجرة فى المجالات المختلفة هربًا من الروتين و«البيروقراطية» هى تعبير عن الظلم الواقع على البعض مع غياب المناخ الصحى للبحث العلمى، فهاجرت عقول لامعة تضرب فى أرض الله الواسعة، و«مصر» محرومة من جهودهم، بعد أن قدمت لهم فى البداية التعليم والرعاية، ولكنها عجزت عن إتاحة الفرصة لهم فى مجالات البحث الذى سعى إليه شباب هاجر من الوطن ومضى يبنى نفسه ويرفع اسم بلاده، مع أنها آخر مَن يفيد من مكانته العلمية وقيمته الدراسية! إن هجرة العقول واحد من مظاهر الهدر البشرى الذى عايشناه فى بلادنا خلال العقود الأخيرة.

خامسًا: إننا نكتشف أحيانًا أن الإعلانات الوظيفية ومسميات المواقع المختلفة تخضع للمحسوبية والمحاباة، وتبدو وكأنما جرى تفصيلها على أشخاص بعينهم، متجاهلين الأسس التى يقوم عليها مبدأ «تكافؤ الفرص»، فشاعت البطالة، وسرق مَن هم أقل كفاءة حقوق الأكفأ فى كل ميدان، ولقد كان ذلك واحدا من دوافع ما جرى يوم 25 يناير 2011.

إننى أكتب هذه السطور لكى أدق ناقوس الخطر تجاه قضية مهمة، وأعنى بها التفريط فى مواردنا البشرية، وانعدام تطبيق الشعار الذى نتشدق به منذ سنوات طويلة، وأعنى به «وضع الرجل المناسب فى المكان المناسب».. إن «مصر» دولة ثرية فى الموارد البشرية، لذلك يجب أن نمضى جميعًا على طريق تعظيم إفادة الوطن من أبنائه الشرفاء فى كل المجالات دون النظر للون أو عرق أو دين أو عقيدة!.

المصدر : جريدة المصري اليوم

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

إهدار الموارد البشرية المصرية إهدار الموارد البشرية المصرية



GMT 22:06 2023 الأربعاء ,14 حزيران / يونيو

وحدة السودان والمخاطر المحتملة

GMT 19:12 2023 الجمعة ,09 حزيران / يونيو

يوم لن يتكرر

GMT 20:43 2023 الخميس ,04 أيار / مايو

اعترافات

GMT 18:42 2023 الأربعاء ,12 إبريل / نيسان

الأكراد والأمازيغ رؤية عربية

GMT 22:18 2023 الأربعاء ,22 شباط / فبراير

«إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا»

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 12:03 2021 الخميس ,21 كانون الثاني / يناير

تعرف على تقنية "BMW" الجديدة لمالكي هواتف "آيفون"

GMT 19:06 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

اليونان تمزج بين الحضارة العريقة والجمال الطبيعي الآسر

GMT 07:21 2021 الثلاثاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

موديلات ساعات متنوعة لإطلالة راقية

GMT 09:17 2022 الإثنين ,11 تموز / يوليو

6 نصائح ذهبية لتكوني صديقة زوجك المُقربة

GMT 12:59 2021 الثلاثاء ,02 شباط / فبراير

مصر تعلن إنتاج أول أتوبيس محلي من نوعه في البلاد

GMT 06:22 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

استغلال وتزيين مساحة الشرفة المنزلية الصغيرة لجعلها مميزة

GMT 21:49 2022 الأربعاء ,11 أيار / مايو

عراقيات يكافحن العنف الأسري لمساعدة أخريات

GMT 12:22 2022 الأربعاء ,06 تموز / يوليو

أفضل العطور النسائية لصيف 2022

GMT 21:09 2023 الأربعاء ,03 أيار / مايو

القماش الجينز يهيمن على الموضة لصيف 2023

GMT 17:08 2022 الأحد ,06 آذار/ مارس

اتيكيت سهرات رأس السنة والأعياد
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon