دواعش أوروبا

دواعش أوروبا

دواعش أوروبا

 لبنان اليوم -

دواعش أوروبا

عمرو الشوبكي

هى بالتأكيد 11 سبتمبر الفرنسية، وقد تكون أكثر قسوة من نظيرتها الأمريكية من زاوية الاختراق الأمنى الكبير والسهولة التى تحرك بها الإرهابيون فى شوارع باريس وهم مدججون بالسلاح والأحزمة الناسفة دون أن يوقفهم شرطى واحد، فى حين أن اعتداءات سبتمبر كانت مبتكرة وغير مسبوقة، ويصعب فى وقتها مواجهتها لأن وقودها كانوا بشراً مثل كل البشر لم يحملوا سلاحاً ولا قنابل، وقادوا طائرات نحو أبراج نيويورك، وكانت جريمتهم الكبرى.

إن ما جرى فى باريس مثل تحولاً حقيقياً فى مسار الجماعات الإرهابية ، وأصبحنا لأول مرة أمام تحدى انتقال بيئة حاضنة للإرهاب فى مكان إلى مكان آخر، ونجاحها فى توجيه ضربة مؤلمة فى داخل المكان الجديد.

إن ما جرى فى باريس هو نتاج لتداخل بيئتين حاضنتين شكلتا اختيارات هؤلاء الإرهابيين، وليس كما اعتدنا من قبل حين كانت هناك بيئة واحدة حاضنة للإرهاب فى معظم دول العالم، فمصر عرفت إرهابا محليا لجماعات جهادية وتكفيرية (الجماعة الإسلامية والجهاد) فى ثمانينيات القرن الماضى واجهت السلطة بالعنف وفشلت فى إسقاطها، وكذلك عرفت الجزائر الجماعة الإسلامية المسلحة التى مارست العنف والإرهاب فى مواجهة النظام القائم، وفشلت أيضا فى إسقاطه، وكذلك فى المغرب مع الجماعة السلفية الجهادية التى مارست إرهاباً انتقامياً قتل وأصاب دون أن يمتلك القدرة على تهديد النظام القائم، وكذلك أوروبا، خاصة فرنسا فقد شهدت إرهابا محليا مارسه بعض شباب الضواحى الفرنسية الفقيرة مثلما فعل الأخوان شريف وسعيد كواشى، فى شهر يناير الماضى، حين اعتديا على صحيفة شارلى إبدو الفرنسية وقتلا ما يقرب من 20 شخصا.

والحقيقة أن عملية باريس ذات طبيعة مختلفة تماما، فلأول مرة تشهد فرنسا ومعها أوروبا نموذج «الإرهابى الانتحارى»، وكأننا فى الرقة أو الفالوجا ولسنا فى عاصمة أوروبية، بما يعنى استحالة فصل البيئة الخارجية والحاضنة السورية والعراقية عما جرى فى فرنسا، فعلى الأرجح أن عددا من هؤلاء الإرهابيين الذين نفذوا عملية باريس قد سافروا إلى سوريا وقاتلوا مع داعش (شهود العيان يقولون إن القتلة استخدموا «الكلاشينكوف» بدم بارد وبخبرة كبيرة وكأنه سلاح أطفال)، قبل أن يعودوا إلى فرنسا لينتقموا منها نتيجة تدخلها العسكرى فى سوريا.

حديث معظم السياسيين الفرنسيين، بمن فيهم رئيس الجمهورية، كان عن مواجهة الإرهاب انطلاقاً من مواجهة التطرف على الأراضى الفرنسية، وهو أمر يكاد يكون بديهيا، ولكنه لن يستطيع هزيمة الإرهاب العابر للحدود ولا حتى حصاره. والحقيقة أن مشكلة فرنسا، ومعها أوروبا، باتت أساسا واقعة خارج الحدود، وتحديدا داخل الأراضى السورية، وأن تصور أن القضاء على الإرهاب سيكون كما قال رئيس الجمهورية فرانسوا هولاند «بحرب بلا رحمة على داعش»، وقيام فرنسا بغارات مكثفة منذ أمس الأول، ضد التنظيم الإرهابى فى سوريا لن يحل مشكلة الدواعش العابرين للحدود، ما لم تتغير البيئة السياسية والاجتماعية الحاضنة لهم.

سيصعب على فرنسا مواجهة هذا النوع من الإرهاب بأساليب فرنسية محلية على طريقة إعادة تأهيل الدعاة وتعزيز ما يسمى قيم الإسلام الفرنسى المنسجم مع مبادئ العلمانية، واستبعاد دعاة العنف والتحريض، خاصة بعد أن أعطت حالة الطوارئ الحق للسلطات الفرنسية فى إيقاف المشتبه بهم (وضعت ما يقرب من 3 آلاف شخص تحت المراقبة وأوقفت حوالى 50 شخصا)، بل ووضعهم تحت الإقامة الجبرية، وهى كلها إجراءات مفهومة ولكنها لن تهزم الإرهاب القادم من خارج الحدود، لأن ببساطة بيئته الحاضنة حيث يقبع كل من بشار الأسد وداعش، كأكبر مصدرين للإرهاب فى العالم، وليس فقط أو أساساً الضواحى الفرنسية الفقيرة.

معركة فرنسا الأساسية هذه المرة خارج الحدود، وإذا كان الإرهابيون اعتدوا على شعبها بسبب تدخلها العسكرى ولو المحدود خارج الحدود، ممثلا فى غاراتها ضد داعش فى سوريا، فإن الحل يتجاوز الضربات الجوية ليصل إلى ضرورة اتخاذ موقف دولى موحد مما يجرى فى سوريا، وضرورة إيجاد حل سياسى يغير فى طبيعة البيئة الأولى المفرخة للإرهاب فى العالم (سوريا والعراق).

إن ما جرى فى فرنسا ما هو إلا بداية ناقوس خطر حقيقى ستدفع ثمنه الإنسانية جمعاء، ما لم يجد العالم حلاً جذرياً للكارثة السورية يخلصها من طرفى المصيبة الكبرى داعش وبشار، وأن الحديث عن الحل السياسى المؤجل فى سوريا (والغريب أنه نال درجة كبيرة من التوافق الدولى والإقليمى حاليا)، ويتمثل فى الدخول فى مسار سياسى يحافظ على ما تبقى من الدولة والجيش السورى، ويؤدى إلى استبعاد بشار الأسد، يضمن ألا تصبح سوريا عراقاً أخرى بلا دولة ولا حتى بقايا جيش.

دواعش أوروبا نتاج بيئة حاضنة عابرة للحدود استقبلت مئات الأوروبيين الذين حاربوا فى سوريا وقتلوا وذبحوا أبرياء مثلما فعل إخوانهم من الإرهابيين العرب، وعاد بعضهم خلسة إلى بلاده الأصلية ليفتح قناة وصل بين البيئتين السورية والأوروبية، ولذا لا حل بالاكتفاء بضرب داعش، إنما بتغيير البيئة الاجتماعية والسياسية التى احتضنتها، وعندها سيصبح استئصالها مسألة وقت، وستصبح معها ضربات فرنسا الجوية مجدية.

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

دواعش أوروبا دواعش أوروبا



GMT 17:07 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ماذا تفعلون في هذي الديار؟

GMT 16:02 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

من جديد

GMT 16:00 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

رُمّانة ماجدة الرومي ليست هي السبب!

GMT 15:57 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

الفاتيكان... ومرثية غزة الجريحة

GMT 15:52 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

لحوم العلماء ومواعظهم!

GMT 15:49 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

وجع فى رأس إسرائيل

GMT 15:47 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

حكم «الجنائية» وتوابعه

GMT 15:44 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

«الثروة» المنسية ؟!

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 12:03 2021 الخميس ,21 كانون الثاني / يناير

تعرف على تقنية "BMW" الجديدة لمالكي هواتف "آيفون"

GMT 19:06 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

اليونان تمزج بين الحضارة العريقة والجمال الطبيعي الآسر

GMT 07:21 2021 الثلاثاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

موديلات ساعات متنوعة لإطلالة راقية

GMT 09:17 2022 الإثنين ,11 تموز / يوليو

6 نصائح ذهبية لتكوني صديقة زوجك المُقربة

GMT 12:59 2021 الثلاثاء ,02 شباط / فبراير

مصر تعلن إنتاج أول أتوبيس محلي من نوعه في البلاد

GMT 06:22 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

استغلال وتزيين مساحة الشرفة المنزلية الصغيرة لجعلها مميزة

GMT 21:49 2022 الأربعاء ,11 أيار / مايو

عراقيات يكافحن العنف الأسري لمساعدة أخريات

GMT 12:22 2022 الأربعاء ,06 تموز / يوليو

أفضل العطور النسائية لصيف 2022

GMT 21:09 2023 الأربعاء ,03 أيار / مايو

القماش الجينز يهيمن على الموضة لصيف 2023

GMT 17:08 2022 الأحد ,06 آذار/ مارس

اتيكيت سهرات رأس السنة والأعياد
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon