علمانية تونس على المحك

علمانية تونس على المحك

علمانية تونس على المحك

 لبنان اليوم -

علمانية تونس على المحك

بقلم : عمرو الشوبكي

قرار رئيس الجمهورية التونسى قرار صائب، لأن نجاح أى تجربة مدنية يتوقف فى قدرتها على تلبية احتياجات أغلب مواطنيها ولا تدخل فى خصومه عقائدية مع المتدنيين مثلما جرى فترات سابقة إنما تعطيهم نفس الحقوق والواجبات وتسمح لهم بممارسة شعائرهم وقناعاتهم الدينية.

وقد يعتبر البعض أن ما فعله الرئيس التونسى إهدار لمعنى دولة القانون، فالقوانين لا تطبق بشكل انتقائى على الأفراد، وهو نظريا صحيح، ولكن عمليا يجب التمييز بين القوانين التى تنظم المجال العام والسياسى، وبين تلك التى تنظم الحياة الشخصية للأفراد فطالما أن هذا القانون سيعطى الحق للأفراد للاختيار الحر فى أمر عقيدى ونفسى، فمن حقهم أن يختاروا لأنه أمر يتعلق بالفرد لا المجتمع.

أعتقد أن تونس مازالت على الطريق الصحيح رغم التحديات الكبيرة التى تواجهها وقرار الرئيس التونسى بإعطاء الحق للأفراد بالاختيار بين القانون المدنى أو الشرع نزع فتيل أزمة كبيرة، وأنه قد يكون أمراً ذا أهمية ودلالة معرفة نسب من سيختارون فى البداية القانون المدنى ومن سيختارون الشرع الدينى، وإذا كان من المتوقع حاليا أن تكون النسب متقاربة، فأعتقد أنها مع الوقت ستميل لصالح من سيختارون القانون المدنى.


أثار تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة، الذى أصدره البرلمان التونسى فى 13 أغسطس الماضى، والذى نص على المساواة فى الإرث بين الرجل والمرأة، وعدم تجريم المثلية الجنسية، ردود فعل غاضبة داخل قطاعات واسعة فى المجتمع التونسى.

وجاء تقرير اللجنة فى جزءين، خصص الأول للحقوق والحريات الفردية، وتناول الثانى مسألة المساواة بين الرجل والمرأة، وتضمن كل جزء مقترحات لتضمينها فى نصوص قانونية وتشريعات.

وقد أثار التقرير موجة من الجدل داخل تونس، ورفضته شريحة واسعة من المجتمع، التى رأت صراحة أن بعض مقترحاته تتعارض مع النص القرآنى، الذى يعطى للمرأة نصف الرجل فى المواريث، فى حين سوى النص القانونى بين الجنسين، وأيضا ألغى العدة للنساء المطلقات والأرامل، وعدم تجريم المثلية الجنسية دون أن يبيحها.

وقد تظاهر عشرات الآلاف، أمس الأول، رافضين ما جاء فى تقرير لجنة الحريات وظهر واضحاً حجم الانقسام داخل المجتمع التونسى بين تيار محافظ قوى، ومتجذر خارج العاصمة والمدن الساحلية، وبين تيار ليبرالى مؤثر فى المدن الكبرى ولديه مؤسسات وجمعيات حقوقية ومدنية قوية تؤيد القانون.

وبدت هناك ملامح عودة جديدة لاستقطاب علمانى/ إسلامى وانقسام مجتمعى على أسس ثقافية ودينية بعد أن نجح هذه المرة فى تحييد حركة النهضة (ذات الأصول الإخوانية) التى لم تعارض بشكل واضح القانون، إنما عارضه بشكل أساسى تيارات مجتمعية محافظة ولجان شعبية شكلت لمناهضه قانون لجنة الحريات، كما تحركت فى الظل ضده بعض القوى السلفية.

وقد دفع هذا الانقسام المجتمعى العميق الرئيس التونسى الباجى قائد السبسى فى خطابه، أمس الأول، بمناسبه الذكرى 62 لعيد المرأة التونسية، إلى أن يقدم على ابتكار صيغة قانونية توافقية وغير مسبوقة، وتمثل رسالة مهمة لمجتمعات عربية كثيرة تعانى من انقسامات مشابهة، فقد أعطى لكل مواطن تونسى الحق فى أن يختار إما النص القانونى الذى سيسوى فى الإرث بين الرجل والمرأة، أو الشرع الدينى الذى يعطى للمرأة نصف الرجل.

وقال الرئيس التونسى، فى خطبه بليغة، إن تونس دولة مدنية ودستورها مدنى وقوانينها وتشريعاتها مدنية، ولكن فى نفس الوقت شعبها مسلم وكثير من أبنائها يفضلون العيش وفق قوانين الشريعة، خاصة فى الأمور المنصوص عليها فى القرآن الكريم.

اعتبر البعض قرار الرئيس التونسى تلفيقيا، واعترض عليه البعض الآخر، فى حين دعمه غالبية أبناء الشعب التونسى حتى من اعتبروه (من الجانب العلمانى) أنه غير كاف ولكنهم وصفوه بأنه خطوة على الطريق الصحيح.

الدولة المدنية لا يجب أن تلغى الدين من المجال العام، ويجب أن تحترم مشاعر الأفراد الدينية وقناعاتهم الإيمانية وحقهم فى ممارسه جميع شعائرهم الدينية بشكل حر، وهى هنا تختلف عن النظرة العلمانية التقليدية أو الإقصائية والتى تهندس حياة الأفراد وتدخل فى قناعاتهم الشخصية والدينية مثلما جرى فى تركيا فى الفترات الأولى التى أعقبت تأسيس نظامها العلمانى.

يقيناً الدولة المدنية هى التى تعطى التأصيل الفكرى لمسألة التوازن والحول الوسط لأنها لا تنطلق من فكرة الحق الإلهى فى الحكم أو أن قوانينها منزلة من السماء، فهى قوانين وضعية تتميز بالنسبية وتحترم حقوق الأفراد وخياراتهم وتنوعهم، ولو كانت تونس دولة دينية لكانت اعتبرت المطالبين بالمساواة فى الإرث بين الرجل والمرأة كفارا يجب قتلهم، فى حين أن الدولة المدنية اعتبرت الرافضين للمساواة تونسيين لهم حقوق وواجبات مثل الآخرين، فأعطت لهم حق الاختيار بين القانون المدنى وبين الشريعة الدينية، وقدمت صيغة أكثر انفتاحا ورحابة فى التعامل مع الانقسام المجتمعى.

قرار رئيس الجمهورية التونسى قرار صائب، لأن نجاح أى تجربة مدنية يتوقف فى قدرتها على تلبية احتياجات أغلب مواطنيها ولا تدخل فى خصومه عقائدية مع المتدنيين مثلما جرى فترات سابقة إنما تعطيهم نفس الحقوق والواجبات وتسمح لهم بممارسة شعائرهم وقناعاتهم الدينية.

وقد يعتبر البعض أن ما فعله الرئيس التونسى إهدار لمعنى دولة القانون، فالقوانين لا تطبق بشكل انتقائى على الأفراد، وهو نظريا صحيح، ولكن عمليا يجب التمييز بين القوانين التى تنظم المجال العام والسياسى، وبين تلك التى تنظم الحياة الشخصية للأفراد فطالما أن هذا القانون سيعطى الحق للأفراد للاختيار الحر فى أمر عقيدى ونفسى، فمن حقهم أن يختاروا لأنه أمر يتعلق بالفرد لا المجتمع.

أعتقد أن تونس مازالت على الطريق الصحيح رغم التحديات الكبيرة التى تواجهها وقرار الرئيس التونسى بإعطاء الحق للأفراد بالاختيار بين القانون المدنى أو الشرع نزع فتيل أزمة كبيرة، وأنه قد يكون أمراً ذا أهمية ودلالة معرفة نسب من سيختارون فى البداية القانون المدنى ومن سيختارون الشرع الدينى، وإذا كان من المتوقع حاليا أن تكون النسب متقاربة، فأعتقد أنها مع الوقت ستميل لصالح من سيختارون القانون المدنى.
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
المصدر: المصري اليوم

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

علمانية تونس على المحك علمانية تونس على المحك



GMT 04:55 2019 الخميس ,21 شباط / فبراير

السباق على استعمار القمر

GMT 04:46 2019 الخميس ,21 شباط / فبراير

نتانياهو متهم والولايات المتحدة تؤيده

GMT 04:40 2019 الخميس ,21 شباط / فبراير

فى حياته.. ومماته!

GMT 13:45 2019 الخميس ,31 كانون الثاني / يناير

الإعلام والدولة.. الصحافة الورقية تعاني فهل مِن منقذ؟!

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 11:49 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة
 لبنان اليوم - انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة

GMT 17:54 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته
 لبنان اليوم - نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته

GMT 14:56 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

"واتساب" يُعلن عن ميزة تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص
 لبنان اليوم - "واتساب" يُعلن عن ميزة تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص

GMT 12:03 2021 الخميس ,21 كانون الثاني / يناير

تعرف على تقنية "BMW" الجديدة لمالكي هواتف "آيفون"

GMT 19:06 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

اليونان تمزج بين الحضارة العريقة والجمال الطبيعي الآسر

GMT 07:21 2021 الثلاثاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

موديلات ساعات متنوعة لإطلالة راقية

GMT 09:17 2022 الإثنين ,11 تموز / يوليو

6 نصائح ذهبية لتكوني صديقة زوجك المُقربة

GMT 12:59 2021 الثلاثاء ,02 شباط / فبراير

مصر تعلن إنتاج أول أتوبيس محلي من نوعه في البلاد

GMT 06:22 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

استغلال وتزيين مساحة الشرفة المنزلية الصغيرة لجعلها مميزة

GMT 21:49 2022 الأربعاء ,11 أيار / مايو

عراقيات يكافحن العنف الأسري لمساعدة أخريات

GMT 12:22 2022 الأربعاء ,06 تموز / يوليو

أفضل العطور النسائية لصيف 2022

GMT 21:09 2023 الأربعاء ,03 أيار / مايو

القماش الجينز يهيمن على الموضة لصيف 2023

GMT 17:08 2022 الأحد ,06 آذار/ مارس

اتيكيت سهرات رأس السنة والأعياد

GMT 21:25 2021 الأحد ,10 كانون الثاني / يناير

لا تتردّد في التعبير عن رأيك الصريح مهما يكن الثمن

GMT 06:17 2014 الثلاثاء ,21 تشرين الأول / أكتوبر

السيسي يجدد دماء المبادرة العربية

GMT 09:55 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

المغربي سعد لمجرد يُروج لأغنيته الجديدة "صفقة"

GMT 08:41 2023 الأربعاء ,22 آذار/ مارس

مكياج مناسب ليوم عيد الأم
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon