العفوي والمخفي

العفوي والمخفي

العفوي والمخفي

 لبنان اليوم -

العفوي والمخفي

عمرو الشوبكي

لم يجد الكثيرون إجابة عن سؤال كبير: هل ما يراه المصريون على السطح من صراعات ومعارك وحملات سباب واجتماعات تطبيعية مع السفير الإسرائيلى هو أمر عفوى يعكس حالة التسيب والفوضى والعشوائية التي تشهدها البلاد، أم أنه نتاج مصالح وصراعات مخفية باتت تهدد البلاد بأخطار كثيرة.

والحقيقة أن الإجابة على «العفوى والمخفى» لا يجب أن تخضع فقط لنظرية المؤامرة، إنما هي نتاج طبيعى لمسارات تعرفها نوعية من النظم السياسية تقوم على حصار المجال العام والسياسى فتنتقل الصراعات المعلنة والقانونية إلى مخفية، ويكون خطرها أكبر بكثير من نظيرتها المعلنة.

والحقيقة أن ما يجرى في مصر يقرؤه الكثيرون من خلال شقين: الأول يعتبر أن ما يحدث انعكاس لصراعات خفية تجرى بين أجهزة ومؤسسات الدولة العميقة، وأن صراع «المندوبين» هو انعكاس لصراع أكبر بين «من شغلوهم»، والثانى يرى أن تفاصيل المشهد الحالى عفوية، ومطلوب فقط أن يهيمن على سطح الحياة المدنية الشخصيات الباهتة والضعيفة ومحدودة الإمكانات ومعدومة الخيال حتى تضمن البقاء الأبدى لهيمنة القوى المخفية.

وإذا أخذنا استقبال توفيق عكاشة للسفير الإسرائيلى فسنجد أن الأسئلة التي طرحت عقب واحد من لقاءات السحاب الشهيرة التي أتحفنا بها الرجل: هل أخطر الرجل فقط الأجهزة الأمنية بأنه سيستقبل السفير الإسرائيلى، وقرر القيام بهذه المهمة من «دماغه»؟ أم أنه طلب منه القيام بهذه المقابلة؟ وإذا كانت الإجابة هي الثانية فلماذا طلبت منه الأجهزة الأمنية مقابلة السفير الإسرائيلى؟ هل لإثارة مزيد من الصخب المتعمد حتى تختزل الحياة المدنية والبرلمانية في الشتائم وضرب الأحذية وتقابلها صورة الرئاسة التي تسعى للتنمية والرخاء وتتحدث عن العلم وعن مصر 20/30. أم أن هناك رغبة في توظيف علاقات النائب بإسرائيل من أجل تحسين العلاقات معها والاستفادة من علاقتها القوية بإثيوبيا لتحسين شروط مفاوضات سد النهضة؟!. لا توجد إجابة قاطعة إنما تكهنات ملتبسة.

والمؤكد أن الخبرة المصرية فيما يخص الملف الإسرائيلى تقول لنا دائما إنه ملف أمنى مخابراتى فقط، وليس فيه مجال لأى تدخل مدنى أو شعبى أو برلمانى إلا لو كان محدد الحركة من الألف إلى الياء، ولذا تبقى دلالة هذا اللقاء في علم الغيب، فإما أنه «شو إعلامى» أو طلب رسمى من الأجهزة الأمنية تحكمه حسابات مخفية.

والمؤكد أن «العفوى والمخفى» يعكسان أزمة عميقة في بنية النظام السياسى القائم، فالعفوى أي أن «يطق في دماغك» فعل ما فتقوم به بصرف النظر عن تبعاته لأنك في قرارة نفسك تعلم أننا لسنا في دولة قانون وأن كل الجرائم نسبية وأن معظمها يخضع للمواءمات والترضيات، خاصة بعد هيمنة أسماء محصنة من أبطال التسريبات والسيديهات لا يمسهم أحد لأنهم يقدمون خدمات يراها من يديرون المشهد المخفى جليلة.

والحقيقة أن الصراعات المخفية في ذلك الوقت داخل نظام أغلق المجال العام والسياسى ولم ينجز اقتصاديا، مستغلا ضعف الأحزاب وتهافت كثير من السياسيين، وهو ما جعله مفرخة لصراعات تجرى في القصور المغلقة، وحملت كثيرا من الضغائن التي جعلت رموز النظام الواحد يتصارعون علناً مع بعضهم البعض بعد أن كانوا قبل فترة وجيزة يخونون مصر كلها، ويعتبرهم الرجال المخفيون هم حراس النظام وأنيابه.

خطورة نظم الصراعات المخفية أنها تقتل السياسة في المجتمع والمجال العام، وتتصور أنها تحمى نفسها من معارضيها ولكن مشكلتها تكون عادة من داخلها ومن مؤيديها وهؤلاء في ظل مناخ غير صحى ومغلق مستعدين أن يديروا مؤامرات أخطر بكثير من مؤامرات الأعداء والخصوم.

جانب من المشهد الحالى تحكمه هذه المعادلة فبعد أن تتصور أجهزة الصراعات المخفية أنها قضت على المعارضين والسياسيين وهيأت المجتمع ليكون خانعا أمام سلطة الوصاية، فتفاجأ بأنها أمام صراعات الفريق الواحد والدولة الواحدة هي التي تسود وتضع البلاد أمام خطر الفشل الكبير.

يقيناً أن «العفوى والمخفى» سيكون تأثيرهما أكثر خطورة من أي مرحلة أخرى لأنه يتم في حالة تصحر شبه كاملة، فلا يوجد تنظيم سياسى أو وسيط حزبى حاكم ولا معارض، والدولة تدير وتحكم بشكل مباشر عبر أجهزتها وهو وضع شديد الخطورة.

هذا الوضع قد يفسر لنا رواج نظريات المؤامرة لأن جانباً كبيراً من الصراعات مخفٍ، في حين أن الجزء المرئى والعفوى ليس صحيا ولا تحكمه قواعد ولا قوانين، ويثير التساؤلات أكثر مما يقدم الأجوبة، لأن من يقوم به شخصيات حركتها الأجهزة الأمنية حتى أصبح العفوى والمخفى محل ريبة وتساؤلات.

إن المشهد العبثى الحالى الذي يحضر فيه فجأة السفير الإسرائيلى مع الأحذية والشتائم اليومية يقدم رسالة واحدة، مفادها أن الشعب جاهل وغير مهيأ للديمقراطية وشوفوا نوابه وأحزابه «عاملين إزاى» حتى نبقى إلى الأبد تحت سلطة الوصاية التي تصر أن تحكم من الخفاء.

لن تتقدم مصر في أي مجال طالما غابت عنها رؤية بناء نظام سياسى قوامه الشفافية ودولة القانون، ولن نحقق تنمية اقتصادية دون تنمية سياسية، ولا أمل في تقدم إلا بتفكيك ثنائية العفوى الطائش والمخفى المتآمر، لصالح بناء منظومة جديدة تفتح المجال أمام تنافس سياسى تحكمه رؤى وبرامج متعددة لا رؤية واحدة وصوت واحد.

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

العفوي والمخفي العفوي والمخفي



GMT 13:50 2024 الأربعاء ,20 آذار/ مارس

مفتاح جنوب البحر

GMT 19:33 2024 الثلاثاء ,19 آذار/ مارس

أحلام فترة النقاهة!

GMT 20:53 2024 الجمعة ,15 آذار/ مارس

دولة طبيعية

GMT 17:49 2024 الثلاثاء ,16 كانون الثاني / يناير

«وثائق» عن بعض أمراء المؤمنين

GMT 17:35 2024 السبت ,13 كانون الثاني / يناير

المشير والمشيرون

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 12:03 2021 الخميس ,21 كانون الثاني / يناير

تعرف على تقنية "BMW" الجديدة لمالكي هواتف "آيفون"

GMT 19:06 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

اليونان تمزج بين الحضارة العريقة والجمال الطبيعي الآسر

GMT 07:21 2021 الثلاثاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

موديلات ساعات متنوعة لإطلالة راقية

GMT 09:17 2022 الإثنين ,11 تموز / يوليو

6 نصائح ذهبية لتكوني صديقة زوجك المُقربة

GMT 12:59 2021 الثلاثاء ,02 شباط / فبراير

مصر تعلن إنتاج أول أتوبيس محلي من نوعه في البلاد

GMT 06:22 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

استغلال وتزيين مساحة الشرفة المنزلية الصغيرة لجعلها مميزة

GMT 21:49 2022 الأربعاء ,11 أيار / مايو

عراقيات يكافحن العنف الأسري لمساعدة أخريات

GMT 12:22 2022 الأربعاء ,06 تموز / يوليو

أفضل العطور النسائية لصيف 2022

GMT 21:09 2023 الأربعاء ,03 أيار / مايو

القماش الجينز يهيمن على الموضة لصيف 2023

GMT 17:08 2022 الأحد ,06 آذار/ مارس

اتيكيت سهرات رأس السنة والأعياد
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon