الكلام الفارغ

الكلام الفارغ

الكلام الفارغ

 لبنان اليوم -

الكلام الفارغ

بقلم : عمرو الشوبكي

الصورة الذهنية عن البلد تشكلها سلسلة من الإنجازات أو الأخطاء، والسؤال المطروح علينا يتعلق بما الذى جعل خطابنا الرسمى يعرف هذا القدر من التخبط، وكيف وصلت الحجج الحكومية والخطاب العام- «يسمى مجازا بالسياسى»- إلى هذه الدرجة من التدهور والمفردات الفارغة، التى صارت أحد أسباب الصورة شديدة السلبية التى يحملها العالم عما يجرى فى مصر.

يقيناً أن عجزنا عن منافسة العالم أو مواجهة كثير من تحيزات القوى الكبرى ضدنا، أو فشلنا فى التأثير فى المنظومة العالمية، جعلنا نستريح للكلام الفارغ، وحديث المؤامرة الأهبل، ومجلس إدارة العالم، ولعب الأطفال التى تحولت إلى قوات روسية تضرب داعش، وغيره من خطاب انعدام المهنية والكفاءة، والذى صار فيه الكذب والتجهيل رسالة الكثيرين.

الكلام الفارغ ليس مجرد زلات لسان عابرة، إنما هو نتاج لخواء فكرى وسياسى غير مسبوق انتشر فى الداخل وصدَّرناه للخارج، فمصر حين واجهت الغرب كان دائما لديها مشروع وخط سياسى منسجم مع تحديات العصر، فقد واجهت الاحتلال منذ ثورة 1919 من خلال حزب مدنى ديمقراطى حديث، وهو «الوفد»، له مشروع ورؤية سياسية، وحين أممت قناة السويس فى عهد عبدالناصر وصمدت فى وجه العدوان الثلاثى، كان لديها مشروع وخطاب تحررى واجهت به الاستعمار والاحتلال الأجنبى.

صحيح أن مصر على مدار تاريخها الطويل كان فيها مَن يقولون كلاما فارغا، وكثيرا ما تحدثنا عن المؤامرة الغربية والاستعمارية التى كانت موجودة واقعا معاشا على الأرض، وكان المنطلق التحررى الذى انطلقت منه مواقف معظم دول العالم الثالث فى مواجهة القوى الكبرى له أساس على أرض الواقع، فقد كنا محتلين ومستغَلين بشكل مباشر من الغرب، ولم نكن كما هو الحال الآن أحد مصادر دخلنا الرئيسية هو المنح والقروض الأجنبية.

وقد كان لنا حلفاء وخصوم فى الغرب- «ليس وفق المثل المصرى الشهير كله ضرب ومفيش شتيمة»- فقد خسر عبدالناصر الجانب الأكبر من السلطة الحاكمة فى البلاد الغربية، ولكنه نال دعم قُوى الضمير والقوى التقدمية فى هذه البلاد، التى اعتبرته رمزا تحرريا حقيقيا، بجانب القوى الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفيتى فى ذلك الوقت. فى حين أنه فى عصر الكلام الفارغ لا يوجد أحد راغب فى أن يصدق روايتك فى أى شىء: من الطائرة الروسية حتى مقتل الطالب الإيطالى، بمن فيهم حلفاؤك وأصدقاؤك. فالمؤكد أنه حين تكون لديك مرجعية وطنية ليبرالية عبَّر عنها «الوفد» وأخرى اشتراكية تحررية عبَّر عنها عبدالناصر، فأنت باليقين لديك «فَلَاتِر» فكرية وسياسية تخفف من وطأة الكلام الفارغ الذى يردده بعض الأفراد، ولكن حين يصبح الفراغ الفكرى والتجريف السياسى والأذرع الأمنية هى الإطار الذى نتحرك فى داخله، فهنا يصبح الكلام الفارغ نمط حياة وليس حالات فردية «ولو متكررة» كما كان يحدث فى الماضى.

والحقيقة أننا نسينا أن نسأل أنفسنا الأسئلة البديهية: هل علاقتنا بالغرب تشبه ما كان عليه الحال أثناء فترات الاستعمار والاحتلال المباشر؟ والإجابة بالقطع لا، فنحن دولة تسعى بكل جهدها لجذب الاستثمارات الغربية، والسياحة أحد مصادر دخلها الرئيسية، وتتلقى معونات وقروضا من كل بقاع الدنيا، فنحن نحتاج إلى صيغة سياسية قائمة على «التفاعل النقدى» مع المنظومة العالمية، التى نحن جزء منها ونسعى لتعديل بعض جوانبها بمشروع ورؤية سياسية لا بالكلام الفارغ.

والحقيقة أننا لسنا دولة ممانعة واجهنا أمريكا والغرب، وحُوصِرنا 30 عاما مثلما فعلت إيران وجَنَت فى النهاية ثمار ما دفعته من ثمن فى ثورتها وموقفها من أمريكا والقوى الكبرى، وبالتالى فنحن أقرب لمعظم دول الجنوب التى تقدمت مثل البرازيل وتركيا وماليزيا وجنوب أفريقيا وكوريا وسنغافورة وغيرها، التى بنت مشروعا وطنيا قادرا على التفاعل النقدى مع العالم، دون أن يعتبر نفسه ضحية مؤامرة كونية، فيتفق ويختلف على سياسات واضحة وشفافة، ويساهم فى مسيرة التفاعل الإنسانى، فيبنى صناعات وجامعات ومراكز أبحاث، ويفتح أسواقا ويجذب استثمارات وسياحة.

فى حالتنا اكتفينا بالهتافات اليومية والكلام الفارغ، وربما ما نراه من تخبط وعشوائية وسوء أداء فى تعامل الدولة مع قضية مقتل الطالب الإيطالى ريجينى يدل على حجم التدهور الذى أصابنا- من قصة العصابة التى صَفَّتْها الشرطة، وقيل إنها خطفته وقتلته، ثم عادت «الداخلية» وتراجعت عن هذه الرواية- كل ذلك حتى لا نجيب بشكل مستقيم ومباشر عن اتهام واضح من قِبَل الحكومة الإيطالية بتورط أجهزة الأمن المصرية فى مقتله. القضية ليست أنه باحث أم جاسوس- «لم نقتل الجواسيس التى تعاملوا مع إسرائيل»- ولا أن هناك مؤامرة كونية علينا حتى من إيطاليا شريكنا التجارى الأول فى أوروبا، أو من روسيا- «عقب سقوط طائرتها»- داعمنا السياسى الأول، إنما فى أننا ليست لدينا رؤية ولا مشروع سياسى، فاستسهلنا الكلام الفارغ، وراوغنا فى الاعتراف بفرضية العمل الإرهابى فى الطائرة الروسية، وتخبطنا فى قضية الطالب الإيطالى.

الكلام الفارغ تحول إلى شعار كامل للمرحلة وليس مجرد حالات فردية متكررة، كما جرى فى فترات سابقة، إنما صار خطابا معتمدا، لأنك لم تمتلك مسطرة تقيس بها، وتركت البلد بلا رابط ولا قواعد شفافة تنظمه، ولم نستطع أن ننال احترام الغرب كما فعل مع مَن واجهوه بجدية واحتراف، ولا صداقته ودعمه كما حدث مع المؤيدين والحلفاء، لأننا بكل أسف صرنا أسرى الكلام الفارغ.

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الكلام الفارغ الكلام الفارغ



GMT 07:40 2024 الخميس ,03 تشرين الأول / أكتوبر

الموقف الإيراني

GMT 21:20 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

حديث المصالحة مع «الإخوان»

GMT 20:02 2024 الإثنين ,08 كانون الثاني / يناير

التطرف الإسرائيلي

GMT 19:42 2023 الإثنين ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

القضاء على حماس

GMT 08:45 2022 الإثنين ,25 تموز / يوليو

٧٠ عامًا على «يوليو»

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 12:03 2021 الخميس ,21 كانون الثاني / يناير

تعرف على تقنية "BMW" الجديدة لمالكي هواتف "آيفون"

GMT 19:06 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

اليونان تمزج بين الحضارة العريقة والجمال الطبيعي الآسر

GMT 07:21 2021 الثلاثاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

موديلات ساعات متنوعة لإطلالة راقية

GMT 09:17 2022 الإثنين ,11 تموز / يوليو

6 نصائح ذهبية لتكوني صديقة زوجك المُقربة

GMT 12:59 2021 الثلاثاء ,02 شباط / فبراير

مصر تعلن إنتاج أول أتوبيس محلي من نوعه في البلاد

GMT 06:22 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

استغلال وتزيين مساحة الشرفة المنزلية الصغيرة لجعلها مميزة

GMT 21:49 2022 الأربعاء ,11 أيار / مايو

عراقيات يكافحن العنف الأسري لمساعدة أخريات

GMT 12:22 2022 الأربعاء ,06 تموز / يوليو

أفضل العطور النسائية لصيف 2022

GMT 21:09 2023 الأربعاء ,03 أيار / مايو

القماش الجينز يهيمن على الموضة لصيف 2023

GMT 17:08 2022 الأحد ,06 آذار/ مارس

اتيكيت سهرات رأس السنة والأعياد
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon