بقلم - مصطفى فحص
أغلق بنيامين نتنياهو أبواب التفاوض، ففتح اللبنانيون والفلسطينيون المقيمون فوق الأرض أبواب القلق على الحاضر والمستقبل. الأغلبية الساحقة منهم في غزة حيث لم يعد هناك مكان للحياة، ولبنانيون جنوبيون نزحوا من قراهم ومدنهم؛ إذ لم يعد هناك مكان آمن في جنوب لبنان. والأصعب أنهم قلقون بسبب قلَّة الأماكن التي ستؤويهم لأسباب كثيرة غنية عن التعريف؛ كونها واضحة في طبيعة القبائل اللبنانية المتناحرة، فحاضرهم بات محصوراً بين قذيفة تطلقها دبابة أو صاروخ من مسيّرة. أما مستقبلهم، فيبدو لهم كالمجهول المعلوم، فهم لا يعرفون متى تنتهي الحرب، ولكنهم أصبحوا أكثر تصوراً كيف ستنتهي، فهذه الحرب التي فرضها عليهم عدوُّهم بعد خطأ في حسابات ذويهم، ستترك ندوبها على وجوههم وأجسادهم، وعلى بيوتهم وأرزاقهم وبلادهم.
ندوب تشبه إلى حد بعيد تلك التي تركت أثرها العميق على دول ومجتمعات وجيوش كانت أكثر تماسكاً وحصانة منهم... شعوب كانت تنتظر النصر، فقدمت الغالي والنفيس من أجل تحقيقه، وأعطت أنظمتها أكثر مما أخذت، وأجَّلت الكلام إلى ما بعد الانتصار الموعود، فأصيبت بخيبة الأمل، بعدما اكتشفت أن أنظمتها خدعتها وخدعت نفسها. قبل 1967، كانت قلوب أغلب العرب وعقولهم مع القاهرة، وحتى خصومها أداروا وجوههم نحوها في لحظة التحدي، وارتضوا جميعاً، ولو البعض منهم على مضض، بمقولة «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة».
الصدمة كانت أن العدو حسم المعركة بعدة أيام، فمنذ 5 يونيو (حزيران) سنة 1967 ونحن نعيد تدوير الهزيمة؛ نكابر ونسميها نكسة، كما سمينا هزيمتنا الأولى نكبة، وهي فاجعة، فيما اليوم نواجه خطر نكبة ونكسة جديدتين، ورؤوساً حامية تعيد المقولة ذاتها: «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة».
ولأن المواجهة شبه حتمية، ولأن الحشود واضحة، وفارق التوازن واضح أيضاً، ليس الآن، بل منذ حرب 1973، فأولئك الذين أطربهم الصوت الافتراضي للمعركة، انتبهوا وحذروا أنظمتهم من مناطحة الثور الأميركي، وفي هذا يقول الأستاذ حازم صاغية في وصف حالتنا اليوم: «تواجهنا الحقيقة التي لم تكن صحيحة كما هي صحيحة راهناً. فالفارق التقني يجعل التفكير بالعنف كحلّ للمعضلة الكبرى أقرب إلى انتحار مُعمّم، فحين نضيف الدعم الأميركي والغربي الهائل لإسرائيل يغدو الانتحار وصفاً لطيفاً لا يفي بالغرض».
مرة جديدة، وقد لا تكون الأخيرة، تستدرج إسرائيل مَن يريد مواجهتها إلى الأخطاء ذاتها التي ارتكبها مَن سبقهم؛ فوحدة الساحات أصابها ما أصاب وحدة الجبهات، فالحرب لم تعد على «حماس»، بل لتصفية القضية الفلسطينية، وحرب الإسناد لم تجبر العدو على التراجع، ولا عرض طهران بمقايضة ردها مقابل الهدنة كان له مكان على طاولة المفاوضات. هذه الحسابات السياسية والاستراتيجية تختلف بين مَن يقيم فوق الأرض ومَن يقيم تحتها، بالنسبة للذين تحتها فإن البقاء على قيد الحياة انتصار. أما نحن الذين فوقها فإننا على مشارف نكسة جديدة، كما 1967، ستترك ندوبها طويلاً، ليس فقط على أجسادنا، بل على أحلامنا وحريتنا وتحرير أوطاننا واستعادة الحق الفلسطيني، وعلى ذاكرتنا ولغتنا وثقافتنا، فمن «الطنطورية» لرضوى عاشور إلى «ثرثرة فوق النيل» لنجيب محفوظ، لعل روائياً لبنانياً سيكتب ذات يوم «ثرثرة فوق الليطاني».
نعم، الصوت يعلو فوق صوت المعركة، لأننا لا نريد أن نخسر ما تبقى من أوطاننا، وأن نخسر فلسطين إلى الأبد؛ فالأفضل لفلسطين تجنُّب مناطحة الثور الأميركي الهائج، فهو قد غضّ بصره عن المشاهد المنقولة مباشرة لفاجعة الإبادة الجماعية في غزة، والقتل والقمع اليومي في الضفة، والدمار والنزوح في جنوب لبنان، وأعطى حليفه الوحيد كل ما يريد، حتى يأخذ ما يريد، فقد أغلق بنيامين نتنياهو أبواب التفاوض وفتح أبواب...؟