عبد الباري عطوان
شهدت الامم المتحدة مساء الاثنين حركة سياسية دبلوماسية نشطة، تتمحور حول منطقة الشرق الاوسط، حاضرا ومستقبلا، ويتزعمها الرئيسان الامريكي باراك اوباما، والروسي فلاديمير بوتين، في ظل غياب، او تغييب كامل، للقيادات العربية المعتدلة، او غير المعتدلة على حد سواء.
لاعبان رئيسيان في منطقتنا كانا حاضرين بقوة على طاولة جميع اللقاءات والمشاورات وفي ثنايا الكلمات التي القيت من على منبر الجمعية العامة، النظام السوري بقيادة الرئيس بشار الاسد، و”الدولة الاسلامية” بقيادة ابو بكر البغدادي، ولم يتم ذكر القضية الفلسطينية الا في اطار اخلاء المنطقة من الاسلحة النووية، وازالة العقبة الاسرائيلية من طريق هذه المهمة، مثلما جاء في خطاب الرئيس الايراني حسن روحاني، فقد تراجعت هذه القضية، وستتراجع اكثر في ظل اعادة ترتيب سلم الاولويات في المنطقة.
الرئيس الروسي بوتين كان نجم دورة الجمعية العامة هذه دون منازع، فقد استطاع ان يفرض رؤيته للشرق الاوسط الجديد، وكيفية التعاطي مع الازمة السورية، وكسر عزلته، وبلاده، من خلال بوابتها.
الرئيس بوتين استخدم تهديد “الدولة الاسلامية” وخطرها كجسر للعودة بقوة الى المنطقة والمجتمع الدولي معا، وايجاد دور للرئيس السوري في التحالف الجديد الذي اقترحه لمحاربتها، ويضم الولايات المتحدة وتركيا وايران ومصر والمملكة العربية السعودية، الى جانب بلاده روسيا، ودون اي ذكر لدولة قطر.
***
من الواضح ان الرئيس اوباما “اذعن” لوجهة النظر الروسية هذه، وبات مستعدا للتعاون مع روسيا، والانخراط في تحالف معها على غرار التحالف الذي تأسس لمحاربة الخطر النازي في الحرب العالمية الثانية، ولعل فشل التحالف الستيني الذي قادته امريكا في القضاء على “الدولة الاسلامية”، او حتى اضعافها من خلال اكثر من سبعة آلاف غارة جوية، هو الذي فرض مثل هذا الاذعان، مضافا الى ذلك ان الرئيس الامريكي لا يريد التورط في حرب باردة جديدة مع موسكو، او خوض مواجهات عسكرية، واكد على ذلك صراحة في كلمته امام الجمعية العمومية التي اتسمت بالارتباك والكثير من التناقضات، عندما قال “الرئيس الاسد طاغية ويلقي البراميل المتفجرة ويقتل الاطفال، ولكن هناك من يدافع ويقول ان البديل اسوأ”.
ما يمكن استنتاجه من خلال قراءة سريعة لما بين سطور كلمات كل من الرئيس بوتين والرئيس اوباما، ان بقاء الرئيس السوري الاسد في السلطة لم يعد من المحظورات، وان خطاب الرئيس الروسي، واقتراحه تشكيل لجنة اتصال موسعة من الدولتين العظميين، ودول اقليمية، قد جبّ كل ما قبله من مبادرات سياسية وحلول عسكرية، ابتداء من تدريب المعارضة “المعتدلة” وتسليحها، وانتهاء بمؤتمري جنيف بنسختيه الاولى والثانية، وحتى مبادرة المبعوث الدولي ستيفان دي مستورا الاخيرة، فلا صوت يعلو فوق صوت بوتين.
نحن امام تحالف دولي اقليمي يعطي الاولوية لمحاربة الارهاب بزعامة روسيا وامريكا، ومشاركة فاعلة من قبل النظام السوري الذي ربما سيكون جيشه بمثابة رأس الحربة في كل الخطط العسكرية الموضوعة والتي سيتم تنفيذها في الاشهر المقبلة.
السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو عن فرص نجاح هذا التحالف الجديد الذي تتزعمه قوتان عظميان، وليس قوة واحدة، اي قيادة “برأسين” في القضاء على الجماعات الجهادية المتشددة وتنظيمي “الدولة الاسلامية” و”جبهة النصرة”، على وجه الخصوص، ثم ماذا سيحدث بعد ذلك، وكيف سيكون شكل المنطقة وطبيعة الحكم في سورية؟
لا شك ان “سابقة” التحالف الروسي الامريكي لم تحدث الا قبل 75 عاما، وبالتحديد لمواجهة النازية الالمانية، وقد نجح في مواجهة هذا الخطر النازي، ولكن بعد دفع ثمن باهظ تمثل في مقتل اكثر من ستين مليونا وتدمير اوروبا.
الفارق بين الظروف التي كانت سائدة قبل 75 عاما والوقت الراهن كبير جدا، وكذلك بين الحركة النازية و”الدولة الاسلامية”، فالاولى كانت قوية مسلحة تسليحا جيدا، وتملك جيشا قويا سيطر على معظم اوروبا، لكن الثانية تظل “ميليشيا” متواضعة التسليح بالمقارنة مع قدرات التحالف الدولي الجديد الذي يتشكل لتصفيتها.
انضمام تركيا السريع للتحالف الجديد الذي عبر عنه السيد داوود اوغلو رئيس الوزراء اثناء تصريحات للصحافيين في اروقة الامم المتحدة بقوله “ان بلاده مستعدة للعمل مع جميع الدول، بما فيها روسيا من اجل انتقال سياسي في سورية والحاق الهزيمة بـ”الدولة الاسلامية”، هذا الانضمام المشوب بالحماس يوحي بأن فصلا جديدا في الشرق الاوسط على وشك ان يبدأ، وان تركيا لم تملك خيارا آخر غيره، تماما مثلما جرى اجبارها على تأييد غارات حلف الناتو في ليبيا.
نظريا يمكن القول ان ايام “الدولة الاسلامية”، وباقي الجماعات الاسلامية المتشددة تبدو معدودة، ولكن الم يكن الحال كذلك في بداية الازمة السورية بالنسبة الى الرئيس الاسد ونظامه؟
هناك مخاوف في اوساط المتحمسين لهذا التحالف بدأت تطل برأسها، وتتمثل في احتمال اندماج قوى اسلامية في تحالف مضاد برئاسة “الدولة الاسلامية”، وتمتع هذا التحالف بحاضنة سورية على غرار الحاضنة العراقية.
هذه المخاوف مشروعة، ولها اساس على الارض، ولا احد يستطيع ان يتنبأ بمفاجآت المستقبل، خاصة اذا صمدت هذه “الدولة الاسلامية” مثلما ادى صمود النظام السوري في وجه من يريدون الاطاحة به الى تغيير كل المعادلات، والوصول الى النتيجة الحالية التي نرصد ابعادها.
هناك فارق اساسي، وهو ان جميع القوى العظمى والاقليمية ستكون في خندق واحد في مواجهة الاسلاميين المتشددين في سورية والعراق، ولن يجدوا من يدعمهم على غرار ما حدث ايام الجهاد الافغاني، فقد توحد الشرق والغرب ضدهم، مضافا الى ذلك ان الجيش السوري الذي اكتسب خبرة طويلة في خوض حرب عصابات على مدى السنوات الخمس الماضية، ربما يشكل نقطة تحول رئيسية في هذه الحرب، وهذه هي النقطة الاقوى في مشروع الرئيس بوتين الجديد.
***
لا نستبعد حدوث “تفاهم ما” امريكي روسي على “تقاسم” المنطقة، على غرار مؤتمر يالطا، ورسم حدودها الجغرافية، وهويتها السياسية في مرحلة ما بعد الانتصار “المفترضة” على “الدولة الاسلامية”، ولكن ابقاء هذا التفاهم سرا في علبة سوداء محكمة الاغلاق قد يعطي نتائج سلبية على صعيد حشد الرأي العام، او جزء كبير منه، لمساندة الحملة العسكرية المتوقعة.
قواعد اللعبة تتغير في منطقة “الشرق الاوسط”، وبشكل متسارع، منذ ان نجح الرئيس بوتين في فرض رؤيته وكسر عزلته، ونجاحه ليس في تجنب المواجهة مع واشنطن، وانما جرها خلفه، ونحن نحكم هنا على الظواهر، اما البواطن فلا يعلم بها الا الخالق جل وعلا، وكل الاحتمالات غير مستبعدة.
عشرات المليارات العربية اهدرت في سورية طوال السنوات الخمس الماضية لاسقاط نظام الرئيس الاسد، ومئات المليارات الاخرى جرى اهدارها، بايعاز امريكي، لحرب مع ايران، وعشرات المليارات الاخرى ستهدر في حرب ضد “الدولة الاسلامية” والجماعات المتشددة الاخرى، ولكن تحت مظلة تحالف تلعب فيه ايران وروسيا زعيمتا “الممانعة” دورا رئيسيا.
الم نقل ان المنطقة تتغير بسرعة، وان العرب، هم “الكومبارس″ في الحالتين؟!