زمن التحولات الكبيرة

زمن التحولات الكبيرة

زمن التحولات الكبيرة

 لبنان اليوم -

زمن التحولات الكبيرة

بقلم : خالد الدخيل

أرسل زلزال التصويت البريطاني بالخروج من الاتحاد الأوروبي موجات خوف وقلق في اتجاهات مختلفة. قلق من احتمال انهيار الاتحاد الأوروبي نفسه. في فرنسا وهولندا بدأت ترتفع أصوات تطالب بطرح الخروج من الاتحاد للتصويت الشعبي كما فعل البريطانيون. داخل بريطانيا نفسها عادت أخطار تفكك المملكة المتحدة مرة أخرى. اسكتلندا صوتت لمصلحة بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي. وبما أن الإنكليز هم من رجّح التصويت لمصلحة الخروج من الاتحاد، يرى الاسكتلنديون الآن أن بقاءهم في الاتحاد يتطلب العودة مرة أخرى لفكرة الاستفتاء على استقلال اسكتلندا. الإرلنديون يفكرون بالأمر ذاته. موجة القلق امتدت لما هو أبعد من أوروبا. في الولايات المتحدة وخارجها هناك قلق من أن تؤدي نتيجة التصويت البريطاني إلى رفع حظوظ المرشح الجمهوري للبيت الأبيض، دونالد ترامب، أمام المرشحة الديموقراطية، هيلاري كلينتون، في السباق الرئاسي في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل.

موجة القلق ستنتقل قريباً الى العالم العربي. سيبرز سؤال مقلق بعد نتيجة التصويت البريطاني. هل كان الربيع العربي حقيقة؟ أم أنه كان وهماً، كما ظن البعض؟ ثم هل كان هذا الربيع مؤامرة غربية لتفكيك العالم العربي؟ وإذا كان كذلك، فما بال هذا الغرب أخذ بتفكيك نفسه أيضاً؟ هذه الأسئلة وذلك القلق تشير إلى أن ما حدث ويحدث في العالم العربي وفي أميركا وأوروبا هو على الأرجح جزء من موجة أو دورة تاريخية، تبدو في بداياتها، وأن آثارها وتداعياتها ستمتد إلى أنحاء مختلفة من المعمورة.

إذا قلنا إن الربيع العربي، والتصويت البريطاني الأخير، ومسار الانتخابات الأميركية في مرحلتها الأولية، كل ذلك يعبّر عن موجة تاريخية، فما هي المشتركات بين هذه العمليات الثلاث؟ أول المشتركات هو الاحتجاج أو التمرد على مؤسسة الحكم من خلال آلية التصويت في الحالتين الأميركية والبريطانية، والثورة على المؤسسة نفسها في حالة الربيع العربي. المثال الأميركي هو الأوضح. فللمرة الأولى يحصد مرشح يمثل أقصى اليسار (برني ساندرز) بطروحاته وبرامجه الاقتصادية والسياسية عشرات الملايين من أصوات ناخبي الحزب الديموقراطي أمام منافسته على ترشيح الحزب، أو مرشحة مؤسسة الحكم (The Establishment)، هيلاري كلينتون. وقد شكل فوز ساندرز في إحدى مراحل الانتخابات تحدياً حقيقياً للسيدة كلينتون. طبعاً فازت الأخيرة بترشيح الحزب الديموقراطي، لكن خسارة ساندرز لم تكن كبيرة، ما منحه قوة مؤثرة في رسم برنامج الحزب في مؤتمره العام الذي سيعقد في شهر تموز (يوليو) المقبل.

صحيح أن ساندرز عضو في مجلس الشيوخ، لكنه بطروحاته وخياراته السياسية يعتبر عملياً من خارج المؤسسة. أي أنه يستخدم هذه المؤسسة لفرض خياراته السياسية عليها، بآلياتها وأدواتها السياسية والدستورية. واللافت أن خياراته السياسية والاقتصادية هي ما منحه الشعبية وأعطاه ملايين الأصوات. نتيجة الانتخابات الأولية في حالة الحزب الجمهوري كانت الأكثر، وربما الأخطر تعبيراً عن حالة التمرد ذاتها. إذ سقط في هذه الانتخابات جميع ممثلي مؤسسة الحكم في الحزب، وهم أكثر من سبعة مرشحين، أمام مرشح من خارج مؤسسة الحكم تماماً بمهنته، وخياراته، بل وحتى بخطابه السياسي اليميني الذي يميل الى العنصرية والابتذال. ولا يزال الحزب في أعقاب ذلك في حالة ارتباك وانقسام بين من يرى ضرورة دعم المرشح الذي فرضته أصوات ناخبي الحزب على الجميع، ومن يرفض الانصياع لهذا الخيار، ويعتبره انقلاباً على تاريخ ومبادئ الحزب.

في الربيع العربي تم التعبير عن الموقف نفسه لأسباب مختلفة وبطريقة مختلفة. غياب آلية التصويت والانتخاب في الحالة العربية، أدى الى أن يأخذ التعبير عن الموقف من مؤسسة الحكم شكل ثورة شعبية، وبشعار «الشعب يريد إسقاط النظام». اختلاف طريقة التعبير في كل حالة يعبّر عن اختلاف التجربة السياسية وتاريخها، واختلاف ما هو متاح للتعبير عن الموقف من هذه التجربة. سيقال إن الديموقراطية قد تكون جميلة وعادلة في أساسها، لكنها تنطوي على أخطار قد لا تحمد عقباها. التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مثال على ذلك. المثال الآخر انتخاب جورج بوش الابن رئيساً للولايات المتحدة. والأسوأ في هذا السياق، كما يقال، إمكانية انتخاب ترامب. من الماضي القريب هناك مثال هتلر، وما انتهى إليه. لكن قارن ذلك بنتيجة غياب الديموقراطية وما انتهت إليه في عالمنا العربي. أمامنا نموذج الحروب المدمرة التي تعصف بالعراق منذ أكثر من ثلاث عشرة سنة، وبسورية وليبيا منذ أكثر من خمس سنوات، وليس هناك أفق لنهاية أي منها. يمكن القول إن الرئيس السوري، بشار الأسد، تفوق على هتلر في قدرته على القتل والتعذيب والتدمير والتهجير. كان هتلر يقتل من منطلق عنصري من يعتبر أنهم أعداء الشعب الألماني. أما الأسد، فيمارس القتل والتهجير في حق شعبه، وبالتعاون مع قوى أجنبية عدوة لشعبه، وكل ذلك من منطلق طائفي. تؤكد المقارنة هنا أن الديموقراطية ليست بالضرورة النظام الأفضل على الإطلاق، لكنها أفضل المتاح، بما توفّره من آليات وقدرات على ضبط الأحداث، وتصحيح الأخطاء، وتناوب قدرات ومهارات مختلفة على إدارة السلطة، بما يحقق للنظام السياسي التوازن وعدم الانحراف الحاد.

هناك مشترك ثالث بين الحالات الثلاث، وهو أن التمرد على السلطة في كل منها يأخذ شكلاً جماهيرياً لا يخضع لقيادة واضحة، ولا لتأطير حركة سياسية معينة. أما المشترك الرابع فهو أن هذا التمرد يميل سياسياً إلى الانكفاء الى الداخل، وتأكيد الانتماء الوطني وإعطائه الأولوية على غيره. وهذا منحى واضح مثلاً في التصويت البريطاني الأخير. لكنه بدأ سياسياً في أميركا مع الرئيس باراك أوباما، ويأخذ منحى يسارياً انعزالياً مع المرشح ساندرز، ومنحى شمولياً يمينياً انعزالياً أيضاً مع المرشح ترامب. كما أنه واضح في تركيز تظاهرات الربيع العربي على الحريات والعدل والحقوق والمشاركة في الداخل في شكل حصري، من دون التطرق إلى قضايا وانتماءات عربية أو إسلامية، بما فيها القضية الفلسطينية. طبعاً هناك اختلاف أن الجماهيرية في أوروبا وأميركا تتحرك في إطار مؤسسات دولة راسخة، وأحزاب كبيرة بتاريخها وتجربتها، وبمرجعية دستورية حاكمة على الجميع، ومجتمع مدني كبير ونشط. على العكس من ذلك حالة الجماهيرية العربية. وهذا الاختلاف الكبير بنتائجه المختلفة، ما هو للتذكير إلا نتيجة لحضور آلية الديموقراطية في حالة، وغيابها في حالة أخرى. ماذا يقول ذلك؟ يقول: ما أحوج الدولة، أو الأمة في ضبابية زمن التحولات الكبيرة إلى نور العقل، وحكمة السياسة، وهيبة المؤسسة، ومنطق المصلحة المشتركة. وبالتالي سينجو من يحسن الاستجابة إلى الموجة، ويعرف كيف يتأقلم معها، ومع متطلباتها، بحيث يتمكن من قيادتها إلى حيث يشاء، بدلاً من أن تقوده هي إلى حيث تشاء أقدارها.

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

زمن التحولات الكبيرة زمن التحولات الكبيرة



GMT 04:32 2018 السبت ,21 تموز / يوليو

لا حرب إيرانية - إسرائيلية

GMT 02:48 2018 الثلاثاء ,27 شباط / فبراير

سورية مختلفة فعلاً

GMT 00:42 2018 الأحد ,14 كانون الثاني / يناير

موقف أحمد ابن حنبل من الدولة

GMT 11:25 2018 الإثنين ,08 كانون الثاني / يناير

كذبة الحرب الكبرى

GMT 08:49 2017 الأحد ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

خيار الحريري و«حزب الله»

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 15:24 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

أفكار لتوزيع قطع الأثاث حول المدفأة
 لبنان اليوم - أفكار لتوزيع قطع الأثاث حول المدفأة

GMT 09:51 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

فساتين الكاب تمنحك إطلالة ملكية فخمة

GMT 10:05 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

أفكار هدايا مبتكرة ومميزة في موسم الأعياد

GMT 08:48 2023 الأربعاء ,22 آذار/ مارس

أبرز العطور التي قدمتها دور الأزياء العالمية

GMT 15:27 2021 السبت ,10 إبريل / نيسان

علي ليو يتوج بلقب "عراق آيدول" الموسم الأول

GMT 11:57 2023 الأربعاء ,20 كانون الأول / ديسمبر

برومو ”الاسكندراني” يتخطى الـ 5 ملايين بعد ساعات من عرضه

GMT 16:26 2021 الإثنين ,20 أيلول / سبتمبر

بريشة : ناجي العلي

GMT 15:28 2024 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

أفكار لاستغلال زوايا المنزل وتحويلها لبقعة آسرة وأنيقة

GMT 09:37 2022 الخميس ,21 تموز / يوليو

طرق تنظيم وقت الأطفال بين الدراسة والمرح

GMT 14:26 2017 الجمعة ,15 كانون الأول / ديسمبر

متوسط أسعار الذهب في أسواق المال في اليمن الجمعة

GMT 19:03 2019 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

منى عبد الوهاب تعود بفيلم جديد مع محمد حفظي
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon