عندما توجّهت يوم الثلاثاء الماضي إلى المصرف فوجئت مرتين، الأولى مبكية وهي أن الرقم المتتابع الذي حصلت عليه كان 436، بما يعني أنه سيكون عليَّ الانتظار لساعات طويلة ليأتي دوري، أو ربما أن أذهب وأعود في اليوم التالي، والثانية مضحكة تماماً ورأيتها بأم عيني، ثم شاهدتها منقولة بكثافة على وسائل التواصل الاجتماعي، وهي تلك السيدة الجالسة طويلاً في انتظار دورها، وقد راحت تعمل على تنقية نبات البقدونس في كيس حملته معها، وعندما سألتها إحدى السيدات، ماذا تفعلين؟ قالت اكسب الوقت تحضيراً لصنع التبّولة للعائلة.
لم يكن مستغرباً أن أكتب مقالاً تلك الليلة بعنوان «دولة البقدونس والتبّولة»، فليس في ذلك أي غرابة أو افتئات، على الأقل لأنه لو كان للدولة اللبنانية البائسة حرص تلك السيدة على القيام بواجباتها، لم نكن لنصل إلى هذه الجمهورية التي تواجه الانهيار الكامل، وتشهد ثورة شعبية عارمة ضد كل الطقم السياسي، مضى عليها 36 يوماً، وهي ترفع شعار «كلن يعني كلن»، بمعنى أن كل الذين تولوا المسؤولية في لبنان وأوصلوه إلى الانهيار، هم تماماً كما تراشقوا أخيراً بالتهم داخل مجلس النواب، فاسدون نهبوا البلاد وسرقوا المالية العامة وأوقعوا لبنان تحت دين عام وصل إلى حدود 100 مليار دولار.
يوم الثلاثاء الماضي هبطت سندات لبنان الحكومية المقوّمة بالدولار إلى مستويات قياسية جديدة، فخسرت ثلث قيمتها منذ اندلاع الانتفاضة الشعبية، وهو ما ضاعف المخاوف من اتجاه سريع إلى الانهيار الاقتصادي، بعد تدني قيمة هذه السندات إلى 44.5 سنت من نحو 70 سنتاً قبل 3 أسابيع، لكن هذا الأمر لا يعني شيئاً بالنسبة إلى المسؤولين، رغم اضطرار المصارف إلى إقفال أبوابها لمدة أسبوع، ما كان كافياً لإثارة ذعر المواطنين على ودائعهم ومدخراتهم، وهو ما تضاعف عندما اتخذت السلطة النقدية وجمعية المصارف اللبنانية قراراً بالذهاب إلى مروحة من الإجراءات، المعاكسة تماماً للحرية المصرفية التي طالما تميز بها لبنان، تحت عنوان «Capital Control»، الذي يمنع تحويل الدولار إلى الخارج، ويحدد مبلغ 1000 دولار يمكن للمودع أن يسحبه أسبوعياً، وكل هذا خلق ذعراً كبيراً رغم التأكيدات المتكررة لمصرف لبنان المركزي، أن الأمور لن تصل قط إلى مرحلة ما يعرف في اللغة المصرفية باسم «Hair Cut» أي اقتطاع نسبة من ودائع الناس لمصلحة الدولة، على ما جرى في بعض البلدان.
لكن صراخ الثورة لم ولن يتوقف، في كل نقطة من لبنان من الشمال إلى الجنوب، مروراً بمعاقل «حزب الله» و«حركة أمل» وحليفهما «التيار الوطني الحر» وجماعة الثامن من آذار، الذين يحاولون شيطنة الثورة، وربطها بمؤامرات خارجية وتدخلات أميركية، في محاكاة واضحة لكلام المرشد علي خامنئي، الذي اتهم الانتفاضة في لبنان والعراق، بأنها محاولات لإثارة الفوضى يجب التصدي لها، على ما حصل داخل إيران قبل أيام، التي اندلعت فيها المظاهرات، التي قمعت بقوة حيث قيل إنه سقط أكثر من 200 قتيل برصاص النظام.
وإذا كانت الأزمة لم تصل بعد إلى مرحلة «Hair Cut «فإنها على مستوى الثورة المندلعة والمتعاظمة، تذهب صراحة إلى مستوى
محاسبة كل الطاقم السياسي الذي حكم البلاد، والانتقال إلى الجمهورية الثالثة التي تؤسس لدولة لبنانية عصرية وشفافة ومسؤولة وتعمل لخدمة الشعب والوطن!
على المستوى السياسي، بات واضحاً تماماً أن التسوية السياسية بين تيار المستقبل والتيار الوطني الحر، بمباركة من «حزب الله» الذي هندس فراغاً رئاسياً استمر عامين ونصف العام لإيصال حليفه إلى بعبدا، والتي جاءت بالجنرال ميشال عون رئيساً للجمهورية، قد تحطمت تماماً، ووصلت الأمور حد التراشق بالاتهامات بين الجانبين، وخصوصاً بعد اعتذار محمد الصفدي عن تولي رئاسة الحكومة، بعدما تمسك الرئيس سعد الحريري بتشكيل حكومة اختصاصيين من خارج الطقم السياسي، في حين تمسّك الرئيس عون بداية بتشكيل حكومة سياسية، وهو ما يريح «حزب الله» الذي يملك حصة وازنة في القرار السياسي للسلطة التنفيذية، ثم وضعت في التداول صيغة حكومة تكنوسياسية يرفضها الحريري منذ البداية، وتحديداً في 17 من الشهر الماضي عندما ربط استقالته بطلب الثورة تشكيل حكومة من الاختصاصيين الأنقياء غير الحزبيين لمدة انتقالية تعالج الأزمة الاقتصادية، وتحضر لإجراء انتخابات نيابية مبكرة.
الثورة التي تثير إعجاب العالم حققت حتى الآن سلسلة مهمة جداً من الانتصارات، أولاً عندما تمكنت من أن تتجاوز على مدى 17 يوماً، كل المحاولات البائسة التي بذلها الوسط السياسي، لإجهاضها عبر إشعال المشاعر الطائفية والمذهبية، وأهم تأكيد لهذا على تحوّل مدينة طرابلس، التي كان يقال إنها قندهار لبنان، إلى «عروس الثورة» التي ترفع روح الوطن الواحد، والعلم الواحد، والشعب الواحد، وثانياً عندما تخطت محاولات السلطة السياسية وضعها في وجه الجيش اللبناني، بعد إقفال بعض الطرق، لكنها غيّرت أسلوب تحركاتها فحاصرت مقرات السلطة ومؤسساتها المتهمة بالفساد، وثالثاً عندما تجاوزت كل التحديات التي حاول البعض تحويلها اشتباكاً دموياً بعد اجتياح مجموعات حزبية ساحات الاعتصام، وإحراق خيام المعتصمين ومحاولة تفريقهم.
رابعاً عندما تمكنت من إسقاط الحكومة بعد استقالة الحريري، وخامساً عندما نجحت عبر تجمعاتها الكبيرة في منع عقد الجلسة النيابية، التي بدا أنها تحاول شقّ الصفوف عبر الدعوة إلى إقرار قانون ملتبس للعفو العام، بما يشمل بعض المعتقلين على خلفية أحداث أمنية سابقة، في حين يدعو الشعب إلى إدانة السياسيين، وسادساً عند إجهاض محاولة الالتفاف على حكومة الاختصاصيين عبر السعي إلى تكليف محمد الصفدي تشكيل حكومة تكنوسياسية، وسابعاً عندما هزم ملحم خلف مرشح الانتفاضة تحالف كل الأحزاب السياسية في انتخابات نقابة محامي بيروت وبفارق 1000 صوت، وثامناً عندما تمكنت من منع المجلس النيابي عقد الجلسة النيابية الثانية يوم الثلاثاء الماضي.
تبدو الأمور هنا أشبه بالأوعية المتصلة، فكل انتصار للانتفاضة يرسخ الانكسار في صفوف السلطة والسياسيين، ومن الناحية السيكولوجية يزيد ثقة الثورة بقوتها ويزيد من تخوّف الوسط السياسي من عاصفة التغيير التي يطلقها الحراك الشعبي.
بعد قمع النظام الإيراني حركة التظاهر والاحتجاجات بالقوة، وإعلانات خامنئي وروحاني عن «الانتصار على الأعداء» والمؤامرة الأميركية، ارتفعت في بيروت قبل يومين لهجة في أوساط «حزب الله» وجماعة الثامن من آذار، حاولت القول إن الانتفاضة هي من لون 14 آذار، بما يوحي أنه يمكن الذهاب إلى افتعال مشكلة والعودة إلى محاولة وضع شارع في وجه شارع، بهدف خلق فتنة تؤدي إلى إجهاض الانتفاضة المقلقة جداً، وخصوصاً أنها لم تتوقف في بلدات مثل صور والنبطية وبعلبك، تعتبر من معاقل «حزب الله» و«حركة أمل».
النائب السابق وليد جنبلاط، قال يوم الأربعاء، إنه لن يشارك في أي حكومة، وإن عهد الرئيس عون انتهى، وإنه زمن التغيير في لبنان، ويأتي هذا مع تحطم التسوية السياسية تماماً، لكن الرئيس عون بدا وكأنه لا يرى كل هذه التطورات الخطيرة، عندما يكرر التمسك بتشكيل حكومة تكنوسياسية، متحدثاً عن «السقف والمعايير والمواصفات المحددة لشكل مجلس الوزراء، التي يجري العمل وفقها، وأن أي شخصية سترأس الحكومة لا بد أن توافق عليها»!
هذا الكلام اعتبره كثيرون تجاوزاً للدستور، من منطلق أن شعار التشاور الذي يجريه تمهيداً للتشكيل وتحديد المواصفات والمعايير لعمل الحكومة واشتراط موافقة رئيسها على هذا، يعيدنا إلى عام 1989، وربما لهذا يقول جنبلاط إن دستور الطائف انتهى، وهناك ضرورة إلى قيام الجمهورية الثالثة.
لكن على أي أساس، وخصوصاً إذا تمّ تشكيل حكومة اللون الواحد من جماعة الثامن من آذار خلافاً لإرادة الانتفاضة الشعبية. ما يهدد بأمرين؛ انهيار اقتصادي قاتل، واشتعال أمني يستنسخ سيناريو إيران مع الثورة!