بقلم: عبد المنعم سعيد
أكتب هذا المقال فى اليوم الثامن للحرب الروسية الأوكرانية ولم يعد هناك الكثير الذى يقال عن الأزمة الأوكرانية ما لم تحدث تطورات كبيرة، ولا أضع فيها سقوط العاصمة كييف ليس لأن ذلك متوقع وإنما لأن توازنات القوى تعطى روسيا مع مزيد من العنف مزيدا من الفرص. ولا يعنى ذلك أيضا أن الحرب الأوكرانية سوف تتوقف لأنه ليس من السهل على روسيا أن تقضى على المقاومة الأوكرانية وهو الشرط الرئيسى للحصول على النصر. وليس محتملا أن يكون القتال قد توقف نتيجة المفاوضات بين موسكو وكييف طالما لم يتم رفع العقوبات على روسيا ووقف القتال ونقل السلاح إلى الجانب الأوكرانى. ما ليس مستبعدا أن يكون لدينا أزمة مستحكمة نعيش فصولها من العنف الساخن إلى الآخر البارد بينما فى كل الأحوال يتغير العالم كما لم نعهده من قبل. ما تعلمناه فى مقاعد الدرس أن المعضلة دائما فى الأزمات الكبرى ليس فقط نتائجها المباشرة، حتى ولو كانت اتفاقا روسيا أوكرانيا، أو روسيا مع حلف الأطلنطى، ولا نستبعد أيا منهما لأن الصين نشيطة، وإنما النتائج التى لم يقصدها أو يتصورها أحد. وبالفعل فإنه فى الأزمة الجارية وقبل أن تنفض أول فصولها، إذا بها تسفر عن تغيرات مهمة سوف يحتاج المؤرخون وقتا طويلا فى النظر إلى الوثائق الروسية عما إذا كان أحد فكر فى إمكانية حدوثها. والأصل فى الأزمة الأوكرانية أنها كانت على مدى قرب أو بعد أوكرانيا من حلف الأطلنطى بأسلحته والاتحاد الأوروبى بأمواله؛ ونفوذ كليهما فى العاصمة كييف. ولذا بات الهدف تقليص وجود الحلف والاتحاد فى القارة الأوروبية كلها؛ ولكن ما حدث فعليا هو أن هذه الأطراف باتت قريبة من بعضها البعض أكثر من أى وقت مضى، وفوق ذلك أعلنت ثلاث دول محايدة – فنلندا والسويد وسويسرا- عن بحثها الانضمام للحلف. سجل حياد هذه الدول معروف، وصمد أثناء الحرب العالمية الثانية، وأكثر من ذلك رأت هذه الدول فى حيادها أنه حافظ على وجودها محققا مصلحة قومية لا شك فيها.
الاحتمال القوى هنا أن الجهد الروسى حربا ومفاوضات لمنع اتساع حلف الأطلنطى ربما ينتهى فى النهاية إلى توسيع دائرة الحلف. الأخطر من ذلك هو أن ألمانيا تخرج من الأزمة كما طائر العنقاء الذى خرج من الرماد، وفى زمن حكومة اشتراكية ديمقراطية متحالفة مع حزب الخضر فإنها لا تقدم معونات عسكرية واقتصادية لأوكرانيا فقط، وإنما تعيد توقيع مكانتها على الساحة الأوروبية، ومن يعلم من تاريخ ألمانيا، تاريخ العالم أيضا. بالنسبة لبرلين كانت نهاية الحرب الباردة تعنى السلام أيضًا، وترافق ذلك مع انخفاض جذرى فى ميزانيات الدفاع الألمانية ظل الأمريكيون يشتكون منه. وفى الوقت نفسه، كانت الدولة تبرز كقوة صناعية، تمتص الغاز الروسى وتبيع آلاتها المتقدمة تكنولوجيا إلى الصين الصاعدة، كل ذلك مع مظلة أمنية توفرها الولايات المتحدة. كانت هناك عقبات على طول الطريق - الأزمة المالية فى أوروبا، وضم روسيا لشبه جزيرة القرم، وموجات الإرهاب المتعددة، وتدفق اللاجئين - لكن لم يزعج أى منها ثقة ألمانيا فى نموذجها ونظرتها للعالم. ولعل الخروج البريطانى من الاتحاد الأوروبى كان نقطة فاصلة، وجاء انتخاب دونالد ترامب فى واشنطن إلى اعتقاد ساد فى حكومة ميركل أنه لم يعد ممكنا الاعتماد على الولايات المتحدة كما كان الأمر فى السابق. ولكن هذا الاستنتاج لم يمنع قوة الدفع الجارية فى السياسة الألمانية نحو استخدام الاقتصاد لتسكين الحلفاء فى أوروبا، وترويض الخصوم فى أوروبا أيضا، خاصة روسيا التى جرى الاتفاق معها على إضافة خط أنابيب جديد للغاز –نورد ستريم ٢- للخط السابق الذى يجرى فى الأراضى الأوكرانية.
مع بداية الأزمة الأكرانية حاول المستشار الألمانى الجديد شولتز تقريب وجهات النظر من خلال جولة مكوكية لعلها تمنع نشوب الحرب. ولكن الحرب حدثت، وإذا بألمانيا تخرج من الرماد بقوة غير متوقعة لكى تقدم ماديا وكذلك عسكريا أكثر من أطراف أوروبية أخرى، وفوق ذلك قامت بإغلاق خط أنابيب الغاز الروسى الجديد، وعزمت مع الإغلاق على بعث مفاعلاتها النووية التى كانت قد أخمدتها بعد أحداث مفاعل فوكوشيما اليابانى لكى تضع حجر أساس أمن الطاقة لديها. ولكن القرار الذى ربما أدار رؤوسا كثيرة فى موسكو وعواصم أوروبية وعالمية أخرى، أن الحكومة الألمانية قررت إنفاق ١٠٠ مليار دولار إضافى على ميزانية الدفاع الألمانية. الأخطار القادمة من الشرق ربما دفعت فى هذا الاتجاه، ولكن عودة ألمانيا المسلحة سوف يوقظ كوابيس لا يريد أحد أن يتذكرها. كثرة الحديث فى ألمانيا عن الديمقراطية والليبرالية والدور المهم للاقتصاد فى تحقيق الرخاء العالمى مع فتح الأبواب الواسعة مع الصين ينبغى لها ألا تخفى البعد الدفاعى والأمنى لوجود ألمانيا الموحدة فى قلب القارة الأوروبية.
عودة ألمانيا فى وقت تجرى فيه عملية مراجعة للنظام العالمى الذى قام بعد نهاية الحرب الباردة نتيجة الخلل الذى حل بالاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة سوف يتيح لألمانيا فرصا جديدة ربما تجعلها تأخذ منحى مختلفا عما أخذته خلال العقود التى تلت الحرب العالمية الثانية، وتلك التى تلت تحقيق الوحدة الألمانية. ألمانيا هذه المرة قامت أولا بإنقاذ أوروبا من الأزمة الاقتصادية، وحافظت – مع فرنسا- على بقاء الاتحاد الأوروبى بعد البريكسيت، والآن فإنها فى الأزمة الراهنة تقود أوروبا مرة أخرى، وهى مسلحة أيضا. الكمون الاستراتيجى الذى اتبعته ألمانيا طوال العقود السابقة ربما يكون قد حان وقت مراجعته فى ظل شراكة مع الولايات المتحدة أو وحدها مع أوروبا. الأمر يحتاج الكثير من التفكير؟!